استراتيجيات غير تقليدية للتعامل مع أزمات الديون
بينما تواجه البلدان النامية حقبة جديدة من التضخم المرتفع، وأسعار الفائدة المرتفعة، والدولار الأقوى، وتدفقات رأس المال إلى الخارج، من المنتظر أن تستفيد بعض الحكومات من منجم ثراء غير ملحوظ. أثناء فترة «الاعتدال الأكبر» التي سبقت اندلاع جائحة كورونا، أفضت سنوات من التضخم المنخفض إلى نمو الديون السيادية الصادرة بأسعار فائدة ثابتة وآجال استحقاق طويلة. والآن، تسبب عامان من التضخم غير المتوقع في الولايات المتحدة في تخفيف هذه الديون فعلياً.
وفقاً لحساباتنا، يـعـد التضخم المفاجئ في الولايات المتحدة كبيراً بالفعل. في أكتوبر من عام 2019، توقع تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي أن يكون التضخم في الولايات المتحدة 2.4 % في عام 2021 ثم 2.3 % في عام 2022. لكن التضخم في الولايات المتحدة سجل 4.7 % في عام 2021، والآن يتوقع صندوق النقد الدولي أن يرتفع المعدل إلى 7.7 % هذا العام. وعلى هذا فإن حجم ما نسميه «صدمة التضخم غير المتوقعة» خلال الفترة 2021 - 2022 يبلغ 7.7 % (مجموع معدلات التضخم الفعلية مطروحاً منها المعدلات المتوقعة). في ظل هذه الظروف، سيكون الفائز الأكبر هو أكبر مـصـدر للديون المقومة بالدولار: العم سام.
في نهاية عام 2020، اقتربت ديون الحكومة الأمريكية الطويلة الأجل الثابتة السعر من 21 تريليون دولار، وكانت القاعدة النقدية الأمريكية (التي تشمل كمية العملة المتداولة) نحو 5.2 تريليونات دولار. في حين أن عبء التضخم الأكبر خلال الفترة 2021 - 2022 (12.4 %) يقع على القاعدة النقدية، فإن مكونه غير المتوقع (7.7 %) يقلل من قيمة ديون الحكومة الأمريكية لأن حاملي الديون يعوضون بفائدة على التضخم المتوقع. وبهذا، تربح وزارة الخزانة الأمريكية خفضاً هائلاً بقيمة 2 تريليون دولار ــ ما يقرب من 11 % من الناتج المحلي الإجمالي ــ في القيمة الحقيقية لالتزاماتها المعرضة للتضخم والتي تبلغ 26 تريليون دولار. وباستبعاد حيازات الاحتياطي الفيدرالي من سندات الخزانة الطويلة الأجل ينخفض الرقم إلى 9 % من الناتج المحلي الإجمالي.
بحسب الحكمة السائدة، فإن البلدان النامية هي التي تلجأ إلى تقليص ديونها بتضخيمها. لكن الفترة الحالية من ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة تذكرنا أن البلدان النامية اعتمدت في كثير من الأحيان أيضاً على استراتيجيات غير تقليدية مثل «ضريبة التضخم» في التعامل مع التزاماتها.
الواقع أن سندات الخزانة الأمريكية التي يبلغ مجموعها 6.6 تريليونات دولار تحتفظ بها كيانات أجنبية مثل البنوك المركزية وصناديق معاشات التقاعد، وتشير تقديرات الاحتياطي الفيدرالي إلى أن ما يقرب من تريليون دولار نقداً يحتفظ بها أيضاً أفراد غير مقيمين. بتقليص القيمة الحقيقية لهذه الحيازات، عمل التضخم المرتفع في الولايات المتحدة بشكل أساسي على تحويل 568 مليار دولار إلى حكومة الولايات المتحدة من غير مقيمين، وهذا يعني أن نحو ربع ضريبة التضخم في الولايات المتحدة على مدار العامين الأخيرين دفـعـت في الخارج.
اثنتان من أكبر الدول الحاملة لسندات الخزانة الأمريكية الطويلة الأجل هما اليابان (1.2 تريليون دولار) والصين (862 مليار دولار)، وقد دفعا معاً ما يقرب من ثلث المكاسب للولايات المتحدة. فضلاً عن الصين والدول الحائزة لمبالغ نقدية ضخمة مثل الأرجنتين (التي تخسر مبلغاً يعادل 3% من ناتجها المحلي الإجمالي بسبب انخفاض قيمة الدولارات النقدية التي يحتفظ بها سكانها) فإن معظم دافعي ضرائب التضخم الأكبر في الخارج من الدول المتقدمة.
لكن أمريكا ليست الرابح الوحيد. إذ تستفيد أيضاً العديد من الأسواق الناشئة، لأن قسماً كبيراً من ديونها صادر بالدولار. ولأن المستثمرين الأجانب أبدوا عدم استعدادهم لتحمل المخاطرة المتمثلة في أن تحاول الحكومات تخفيف القيمة الحقيقية لالتزاماتها عن طريق طباعة النقود وإشعال شرارة التضخم، فقد قيدت العديد من الحكومات أيديها بإصدار ديون مقومة بالدولار.
وهكذا، تمكن حاملو السندات من طمأنة أنفسهم إلى أن تضخم العملة المحلية لن يؤثر سلباً على قيمة ممتلكاتهم ــ أو هكذا تصوروا. تـنـبـئـنا نظرية تعادل القوة الشرائية النسبية بأن الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في كل البلدان، عندما يـقـاس بالدولار الأمريكي، سينمو في النهاية وفقاً لمعدل التضخم في الولايات المتحدة. وعلى هذا فإن التضخم المرتفع في الولايات المتحدة يعني أن العبء الحقيقي الذي تفرضه الديون المقومة بالدولار سينخفض، مما يحقق مكاسب كبيرة لحكومات دول أخرى.
باستثناء الولايات المتحدة، بلغ إجمالي الديون الطويلة الأجل ذات الفائدة الثابتة المقومة بالدولار في عام 2021 نحو 1.3 تريليون دولار، وفقاً لبنك التسويات الدولية. وبالتالي، لكي نتوصل إلى تقدير متحفظ لحجم المكاسب التي حققتها حكومات غير الولايات المتحدة (تقدير متحفظ لأن التضخم في الولايات المتحدة قد يتجاوز التوقعات أو يستمر إلى ما بعد هذا العام)، يمكننا تطبيق 7.7 % من التضخم غير المتوقع على مبلغ الـ 1.3 تريليون دولار، مما يعني ضمناً توفير ما يقرب من 100 مليار دولار.
من المؤكد أن مبالغ فلكية في الشأن ستجعل الدائنين يطالبون بأسعار فائدة أعلى على إصدارات الديون الجديدة. لكن أسعار الفائدة الأعلى لا تؤثر على القيمة الحقيقية المتدهورة للمخزون الحالي من الديون الطويلة الأجل.
بالنسبة لبعض البلدان، قد يستغرق الشعور بتأثير هذه التحويلات أيضاً بعض الوقت، لأن الدولار ازداد قوة أخيراً مقابل العملات الأخرى. لكن صدمة التضخم الأخيرة في الولايات المتحدة صدمة نقدية، وهذا يعني ضمناً أن أسعار الصرف الاسمية ستتحرك في النهاية مع فارق التضخم عبر البلدان (بما يتفق مع نظرية تعادل القوة الشرائية النسبية). وبمجرد أن يحدث هذا، سينمو أيضاً الناتج المحلي الإجمالي في دول أخرى، عند قياسه بالدولار، وفقاً لمعدل التضخم في الولايات المتحدة، مما يضمن انخفاض العبء الحقيقي الذي تفرضه الديون السيادية.
تميل التعليقات على المخاطر التي تواجه البلدان النامية إلى التركيز على المخاطر التي يفرضها ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض قيمة العملات. ولكن من منظور الحكومات، يأتي التضخم في الولايات المتحدة مصحوباً أيضاً بجانب إيجابي: يدفع حاملو السندات الثمن في حين يعمل التضخم على التقليل من مخزون متزايد الضخامة من الديون السيادية.
* أستاذ السياسة العامة المساعد في كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية في جامعة هارفارد
**رئيس بنك الأرجنتين المركزي الأسبق، وأستاذ الاقتصاد في جامعة سان أندريس وأستاذ السياسة العامة المساعد في كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية