السياسات الاقتصادية والإنتاجية
داني رودريك
كتبت أخيراً عن احتمال نشوء نموذج جديد للسياسات الاقتصادية، من يسار ويمين الطيف السياسي، قادر على الحلول محل النيوليبرالية. يوكل الإطار الجديد إلى الحكومات والمنظمات الاقتصادية قدراً أعظم من المسؤولية عن تشكيل الاستثمار والإنتاج ــ في دعم الوظائف الجيدة، والتحول المناخي، والمجتمعات الأكثر أماناً وقدرة على الصمود ــ وهذا النموذج أكثر تشككاً في الأسواق والشركات الضخمة مقارنة بالنموذج الزائل. أسميته نموذج «الإنتاجية»، وإن كان آخرون من الممكن أن يفكروا في تسميات أكثر جاذبية.
طوال التاريخ، تأرجح اتجاه الإيديولوجية الاقتصادية من تأليه الأسواق إلى الاعتماد على الدولة ثم العودة مرة أخرى إلى تأليه الأسواق. ظاهرياً، يبدو أننا في خضم عملية إعادة تنظيم دورية أخرى. ربما كان من المحتم أن تُـفضي تجاوزات النيوليبرالية ــ اتساع فجوات التفاوت، وتركز قوة الشركات، وإهمال المخاطر التي تهدد البيئة المادية والاجتماعية ــ إلى ردود فِـعل عنيفة.
لكن إنشاء نماذج جديدة يتطلب تطوير أساليب تناول جديدة، وليس الاكتفاء بمحاكاة القديمة. عندما حلت الصفقة الجديدة ودولة الرفاهة محل الرأسمالية المتحررة المنطلقة التي سبقتهما، لم يرتد صناع السياسات ببساطة إلى الممارسات التجارية السابقة، بل عملوا على تأسيس سلطات تنظيمية جديدة ومؤسسات الضمان الاجتماعي، واحتضنوا إدارة الاقتصاد الكلي الصريحة التي استندت إلى مبادئ جون ماينارد كينز (الكينزية).
على نحو مماثل، إذا كان للإنتاجية أن تنجح، فيتعين عليها أن تتجاوز الحماية الاجتماعية التقليدية، والسياسات الصناعية، وإدارة الاقتصاد الكلي. كما يجب عليها أن تستوعب الدروس المستفادة من إخفاقات الماضي وأن تتكيف مع تحديات جديدة جوهرياً.
كانت تدخلات الدولة التي سعت إلى إعادة تشكيل بنية الاقتصاد ــ ما يسمى السياسات الاقتصادية ــ تُـنـتَـقَـد تقليدياً لكونها غير فَـعّـالة وعُـرضة لاستيلاء المصالح الخاصة عليها. وكما يقول المثل القديم، «الحكومات عاجزة عن اختيار الفائزين». لكن قسماً كبيراً من هذا الانتقاد مبالغ فيه. فعلى الرغم من الإخفاقات الملحوظة، وجدت دراسات منهجية حديثة أن السياسات الصناعية التي تشجع الاستثمار وخلق فرص العمل في المناطق المحرومة أحرزت نجاحاً مدهشاً في الأغلب الأعم.
كانت مبادرات القطاع العام وراء بعض نجاحات التكنولوجيا الفائقة الأكثر إبهاراً في عصرنا، بما في ذلك الإنترنت ونظام تحديد المواقع العالمي. في مقابل كل شركة Solyndra، وهي شركة تصنيع الخلايا الشمسية الأمريكية التي انتهت بها الحال إلى الفشل الذريع بعد حصولها على 500 مليون دولار من ضمانات القروض الحكومية الفيدرالية، هناك عادة شركة مثل Tesla، شركة تصنيع البطاريات والمركبات الكهربائية التي حققت نجاحاً مذهلاً، والتي تلقت أيضاً دعماً حكومياً في مرحلة حرجة من تطورها.
بيد أن الحيز المتاح للتحسن كبير. تستلزم أكثر السياسات الصناعية فعالية التفاعل الوثيق والتعاوني بين الهيئات الحكومية والشركات الخاصة، والذي بموجبه تتلقى الشركات مدخلات عامة بالغة الأهمية ــ الدعم المالي، أو العمال المهرة، أو المساعدة التكنولوجية ــ مقابل تلبية أهداف ناعمة ومتطورة في مجال الاستثمار وتشغيل العمالة. من المرجح أن يعمل مثل هذا النوع من السياسات الصناعية على نحو أفضل كثيراً ــ سواء في تعزيز التنمية الاقتصادية المحلية أو توجيه الجهود التكنولوجية الوطنية الكبرى ــ مقارنة بإعانات الدعم غير المحدودة أو الحوافز الضريبية.
كما يوحي الاسم، يركز نموذج الإنتاجية على تعزيز القدرات الإنتاجية في كل المناطق وكل شرائح المجتمع. وفي حين من الممكن أن تساعد الأشكال التقليدية من المساعدة الاجتماعية وخصوصاً تحسين القدرة على الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية في هذا الصدد، فإن ربط الناس بفرص التوظيف الإنتاجية يتطلب إدخال تحسينات على جانب الطلب في سوق العمل، وكذا على جانب العرض. يجب أن تعمل السياسات بشكل مباشر على تشجيع الزيادة الكمية والنوعية في الوظائف المتاحة للأفراد الأقل تعليماً ومهارة في قوة العمل، أينما اختاروا أن يعيشوا (أو حيثما كان المكان الذي يمكنهم تحمل تكاليفه).
في المستقبل، لن يأتي القسم الأعظم من هذه الوظائف من قطاع التصنيع، بل من خدمات مثل الرعاية الصحية، والرعاية الطويلة الأجل، وتجارة التجزئة. في الولايات المتحدة، كان صافي خلق كل الوظائف الجديدة في القطاع الخاص منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين في قطاع الخدمات، ويعمل أقل من واحد من كل عشرة عمال حالياً في قطاع التصنيع. وحتى لو نجحت سياسة الولايات المتحدة في إعادة التصنيع وسلاسل التوريد إلى الداخل، فمن المرجح أن يكون التأثير على تشغيل العمالة محدوداً.
هذه الملاحظة مهمة، لأن قسماً كبيراً من سياسة الولايات المتحدة تركز على تشجيع التصنيع العالي التكنولوجيا، بما في ذلك مشروع القانون الذي أقـره الكونجرس أخيراً، والذي سيوفر 52 مليار دولار في هيئة تمويل لتصنيع أشباه الموصلات وما يرتبط بها من صناعات.
من الممكن طرح نقطة مماثلة حول إعانات الدعم المقدمة للتكنولوجيات الخضراء، التي تُـعَـد مكوناً أساسياً في قانون خفض التضخم. لا شك أن التحول الأخضر يمثل أولوية ملحة يتعين على النموذج الجديد أن يعالجها. ولكن هنا أيضاً، لا تستطيع الحكومات أن تصطاد عصفورين بحجر واحد. فالسياسات التي تستهدف تغير المناخ ليست بديلاً عن سياسات توفير الوظائف الجيدة، والعكس صحيح.
* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد