استراتيجيتان للخروج من مأزق انعدام أمن الطاقة
كارين كارنيول تامبور
لقد دخل البشر حقبة جديدة من انعدام أمن الطاقة، حيث تظل نوبات النقص الحاد كتلك التي نشهدها في هذا الصيف تشكل خطراً مستمراً. وقد بدأت تتضح بالفعل العواقب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المترتبة على هذا التحول. من الواضح أن نقص الطاقة يعني ترشيد وتقنين الاستهلاك، وإذا تُـرِكَت عملية التقنين لقوى السوق، ستكون النتيجة شديدة الرجعية، حيث ينفق الفقراء حصصاً أكبر بدرجة غير متناسبة من دخولهم على الاحتياجات الأساسية مثل التدفئة والانتقال.
وسوف يُـفـضـي تضخم أسعار الطاقة بدوره إلى زيادة مخاطر اندلاع الاضطرابات الاجتماعية. برغم أن نقص الطاقة سيؤدي بطبيعة الحال إلى استثمارات أكبر في القدرة الإضافية، فسوف يستغرق تنفيذ المشاريع الجديدة بعض الوقت قبل أن يصبح من الممكن إدخالها إلى الخدمة. وما لم تكن أغلبها محايدة كربونياً، فسوف تؤدي الاستثمارات الرامية إلى معالجة الاحتياجات في الأمد القريب إلى تفاقم مشكلة أكبر كثيراً في الأمد البعيد.
الواقع أن انعدام أمن الطاقة الذي نشهده اليوم كان قيد التكوين لفترة طويلة. تستغرق معظم استثمارات الطاقة سنوات حتى تكتمل، وتُـسـتَـخـدَم البنية الأساسية المرتبطة بها لسنوات طويلة عادة. وعلى هذا فإن بصمة الطاقة الحالية كانت «مخبوزة مع الكعكة» منذ سنوات، ولهذا السبب لا يزال الوقود الأحفوري يمثل أكثر من 80% من استهلاك الطاقة العالمي.
بسبب الفارق الكبير بين الاستثمارات الجديدة والإنتاج، لن يكون من الوارد تخفيف نقص النفط اليوم بسرعة، بالرغم من أن شركات النفط الصخري الأمريكية مستعدة لزيادة الإنتاج بسرعة نسبياً، لكن الخسائر السابقة جعلتها عازفة عن التحرك بقوة، وحتى هذه الشركات تحتاج إلى مهلة لا تقل عن تسعة أشهر. وبعد سنوات من نقص الاستثمار، يكافح كثيرون من المنتجين لتلبية حتى هذه الزيادات.
كما يستغرق بناء وتشغيل منشآت الطاقة النووية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح وقتاً أطول. وحتى إذا أمكن تعزيز إمدادات الطاقة، فستظل القيود اللوجستية قائمة في الشحن والموانئ وسِـعة التكرير. على سبيل المثال، من غير الممكن أن تُـسـتَـخـدَم أنابيب الغاز الحالية في أوروبا لنقل الغاز الطبيعي الـمُـسال، إذا لم تكن محطة طرفية لاستيراد الغاز الطبيعي المسال مرتبطة بها، كما هي الحال في ألمانيا اليوم.
نظراً لعدم إمكانية توسيع مصادر الطاقة في إطار زمني قصير، ومع تراجع المخزونات إلى أدنى مستوياتها تاريخياً، لم يعد لدى السوق سوى طريقة واحدة لتحقيق التوازن في الأمد القريب: زيادة الأسعار بشكل حاد، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي. وعلى هذا فإن العالم الجديد الذي يتسم بنقص الطاقة المستمر سيكون متميزاً بالركود التضخمي والتقهقر. مع ارتفاع التضخم، يتراجع النشاط الاقتصادي، بسبب عدم كفاية الطاقة اللازمة لتشغيله. وفي غياب إعانات الدعم، قد يصبح الأشخاص من ذوي الدخل المنخفض خارج سوق الطاقة تماماً بسبب ارتفاع أسعارها، وهذا من شأنه أن يُـفضي إلى نشوء شكل خطير من أشكال التفاوت بين الناس.
شهدت أوروبا «بروفة» لهذه الظروف في عام 2021 عندما خفضت روسيا شحناتها من الغاز الطبيعي. تدخلت الحكومات للتعويض عن ارتفاع تكاليف الطاقة لصالح الأسر الأكثر ضعفا، لكن الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة أصبحت غير مربحة واضطرت إلى إيقاف أو إبطاء الإنتاج. كانت هذه طريقة «فَـعّـالة» لتقنين الطاقة، لكنها أدت رغم ذلك إلى إبطاء النمو. مع اشتداد النقص في عام 2022، ظهرت ذات الظروف في مختلف أنحاء العالم، ويظل لزاماً على أغلب الحكومات أن تبتكر استجابة منسقة في التصدي لها.
لا يتمثل التحدي في إنتاج المزيد من الطاقة في الأمد القريب فحسب، بل أيضاً في تشييد البنية الأساسية للطاقة القادرة على المساعدة في مكافحة تغير المناخ. ولن يؤدي الاستمرار في التركيز على الوقود الأحفوري إلا إلى إضافة المزيد من الانحباس الحراري الكوكبي إلى المعادلة. ولم يتبق لدينا سوى طريقتين لتجنب هذه النتيجة.
تتمثل الاستراتيجية الأولى في خلق يقين تنظيمي بأن الكربون سيخضع للضريبة في المستقبل. وبالفعل، يحدث هذا الآن بدرجة ما، حيث يفكر العديد من منتجي النفط ملياً قبل الدخول في استثمارات جديدة في حقول النفط التي يمتد عمرها التشغيلي عقوداً من الزمن. علاوة على ذلك، سينشأ لدى قسم كبير من المنتجين ــ وخاصة شركات النفط العملاقة المملوكة للدول والتي تعتمد بشكل أقل على التمويل الخاص ــ الحافز لتوسيع القدرة الإنتاجية في الاستجابة للنقص الحالي.
مع ارتفاع التضخم بالفعل إلى أعلى مستوياته في أربعين عاماً، ستكون الشهية السياسية ضئيلة لاتخاذ تدابير بهدف زيادة أسعار الطاقة. يتلخص أحد الاحتمالات إذاً في تشريع تسعير الكربون في المستقبل البعيد، بحيث لا يصبح سارياً إلا بعد تخفيف الضغوط التضخمية الحالية. ولأن العديد من منتجي الوقود الأحفوري يلتزمون بجداول زمنية لميزانيات أطول أمداً، فإن تسعير الكربون مع العد التنازلي لعشر سنوات سيكون كافيا لتثبيت الاستثمار الطويل الأجل في القدرة الإنتاجية.
تتمثل الاستراتيجية الثانية في ضمان القيام بمزيد من الاستثمارات الخضراء اليوم. قد يأتي هذا في هيئة إنفاق مالي على البحث والتطوير وصنع الأسواق (أوامر الشراء المسبق) للتكنولوجيات المتقدمة المحتملة، وخاصة تلك التي تنطوي حالياً على مخاطر عالية أو المتخلفة بالنسبة للقطاع الخاص. علاوة على ذلك، تستطيع الحكومات تقديم إعانات الدعم لتبني مصادر الطاقة المتجددة، والمركبات الكهربائية، والمضخات الحرارية، وإعادة تجهيز المباني من خلال الإعفاءات الضريبية وسياسات المشتريات العامة.
ورغم أن الإنفاق الحكومي من الممكن أن يضيف إلى الضغوط التضخمية (اعتماداً على طريقة تنفيذه والتعويض عنه)، فإنه قد يقلل أيضاً من الأسعار والتكاليف التي تتحملها الشركات والأسر التي تستفيد من إعانات الدعم والحوافز الجديدة. مقارنة بتسعير الكربون أو تقييد العرض، يبدو هذا النهج واعداً بدرجة أكبر في بيئة الركود التضخمي اليوم.
أياً كانت استجابات الحكومات لنقص الطاقة اليوم، فإن القرارات التي ستتخذها ستخلف عواقب كبرى على النمو العالمي، والتضخم، وأسعار الأصول. وسوف تنشأ الحاجة إلى كميات هائلة من الحديد والنحاس والنيكل، وغير ذلك من السلع الأساسية، لبناء شبكات الطاقة المتجددة وزيادة إنتاج المركبات الكهربائية. لكن تأمين المدد الكافي من هذه المعادن سيستغرق سنوات. من عجيب المفارقات هنا أن التصدي لتغير المناخ يفرض على صناع السياسات تبني الآفاق الزمنية الممتدة لعقود والتي يتبناها المنتجون الذين يأملون في إقصائهم.
* رئيسة الاستثمار التنفيذية المشاركة لشؤون الاستدامة في شركة «بريدجووتر أسوشيتس» للاستثمار