مـعضـلة الديون وضرورة برامج التطوير العالمية
كليمنس لاندرز - نانسي بيردسال
مثلها مثل الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الغنية، لم يكن أمام البلدان النامية خيار سوى الاقتراض والإنفاق بكثافة في التعامل مع جائحة مرض فيروس «كورونا» 2019 (كوفيد 19). ونتيجة لهذا، تضخمت مستويات ديون البلدان الفقيرة التي كانت مرتفعة بالفعل، لتصل إلى أعلى مستوياتها في خمسين عاماً.
ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي تسبب في إحداث زيادات غير مسبوقة في أسعار الغذاء والوقود والأسمدة. والآن، بعد أن أدى التضخم المرتفع إلى زيادة أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة، بدأت تتراجع قيمة عملات البلدان النامية، ما يزيد من شدة محنة الديون التي تواجهها. في شهر مارس، أشارت تقديرات البنك الدولي، إلى أن 12 دولة نامية، قد تتخلف عن سداد ديونها خلال الأشهر الاثني عشر المقبلة.
الواقع أن علامات التحذير أصبحت بادية للعيان في كل مكان. فقد سحب المستثمرون 50 مليار دولار من صناديق سندات الأسواق الناشئة هذا العام، والآن يجري تداول ديون ما يقرب من ثلث هذه البلدان عند مستويات بائسة.
وفي غياب القدرة على الوصول إلى الأسواق، ستضطر حكومات عديدة، إلى النضال لترحيل ديونها الخارجية. وفقاً لحساباتنا الخاصة، تواجه البلدان المنخفضة الدخل وحدها، ما يقرب من 15 مليار دولار من عمليات ترحيل قروض السندات الأوروبية، على مدار السنوات الثلاث المقبلة.
أفضت أزمة الغذاء العالمية الطاحنة هذا العام، إلى زيادة الأمور سوءاً على سوء. وقد تؤدي سلسلة من أزمات الديون السيادية، إلى إشعال شرارة طوارئ إنسانية في العالم النامي، حيث بدأت تنفد احتياطيات الحكومات من النقد الأجنبي، الذي تستخدمه لتمويل واردات الغذاء الأساسية، كما حدث في سريلانكا.
تتلخص المهمة الآن، في منع أزمات الديون هذه من التحول إلى كوارث تنموية تامة. وفي حين اتخذ المجتمع الدولي بعض الخطوات المهمة، لاستباق دوامة الديون في مرحلة مبكرة، فإن هذه الجهود لم تُـسـفِـر في نهاية المطاف عن نتائج ملموسة. فقد سمعنا إعلانات وقرارات، لكننا لم نرَ أي خفض حقيقي للديون في العالم النامي.
على سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2020، أطلقت مجموعة العشرين، الإطار العام لمعالجات الديون، والذي استهدف تزويد البلدان الفقيرة بخريطة طريق لشطب الديون. قدمت هذه الآلية بعض الأمل لفترة وجيزة، لأنها ضمت حتى الصين، التي كانت تاريخياً تفضل التفاوض على إعادة هيكلة الديون على مستوى ثنائي. لكن رعاة هذا الإطار، فشلوا في تحديد جداول زمنية لمراحل واضحة للتفاوض، أو مبادئ توجيهية ملموسة بشأن «إمكانية مقارنة المعاملة» بين أنواع مختلفة من الدائنين. وفي غياب أي اتفاق بشأن المرحلة النهائية، تثاقلت خطوات المفاوضات، كما كان متوقعاً.
بعد ذلك بعامين، كانت ثلاثة بلدان فقط (تشاد وإثيوبيا وزامبيا)، تقدمت بطلبات لتخفيف عبء الديون، بموجب هذا الإطار، وتوقفت اثنتان من هذه المفاوضات. وعلى هذا، فقد تحولت هذه البلدان الثلاثة إلى رسالة تحذيرية لنظيراتها من البلدان المثقلة بالديون. في غياب عملية إعادة هيكلة سريعة، ستكون البلدان التي من المحتمل أن تحتاج إلى بعض التخفيف مترددة في التقدم، خوفاً من أن تجد نفسها في مأزق باهظ التكلفة: فتصبح غير قادرة على الوصول إلى التمويل الخارجي الجديد، في حين تستمر في سداد أقساط ديونها الخارجية.
تكمن المشكلة الأساسية في أن البنية المالية الدولية القائمة فشلت في التكيف مع مشهد الديون الجديد. تشكل الصين أحد التحديات المتواصلة. فرغم كونها الآن دائناً رئيساً لحكومات البلدان النامية، فإنها لم تفرض علاوة للشفافية أو الاستدامة الاقتصادية لقروضها.
بالإضافة إلى هذا، تمكن عدد أكبر من البلدان النامية، من اكتساب القدرة على الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية، بسبب نجاحها في إدارة استقرار الاقتصاد الكلي، في ظل بيئة أسعار الفائدة العالمية الحميدة، التي سادت حتى وقت قريب. وعلى هذا، فإن الوضع اليوم مختلف تمام الاختلاف عن مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون في مطلع هذا القرن، عندما تدخلت البلدان المانحة الرئيسة، والمؤسسات المالية الدولية، بإصدار قروض ميسرة للبلدان الفقيرة. ولا يشبه الوضع الحالي أيضاً، أزمة الديون في أمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين، عندما كانت بنوك وال ستريت الدائن الأكبر، وكانت حكومة الولايات المتحدة لاعباً رئيساً في تسوية الديون.
أحد الدروس المستفادة من هذه الوقائع، هو أن بناء مبادرة لتخفيف أعباء الديون، يصبح أسهل كثيراً، عندما يكون الدائنون الرئيسون منتمين إلى ذات الاتجاه الفكري، وقادرين على التنسيق بسهولة. ويصبح الجمع بين حاملي السندات والمقرضين الجدد غير التقليديين، مثل الصين، في نظام عمل جمعي واحد، أصعب كثيراً، في وقت حيث تتضاءل التعددية والثقة بين القوى الكبرى.
تتمثل الأولوية العاجلة الماثلة أمام المجتمع الدولي، في منع البلدان النامية المثقلة بالديون من معاناة انهيارات اقتصادية واجتماعية، على غرار ما حدث في سريلانكا. يجب أن يكون التركيز على منح البلدان المتنفس المالي الكافي، خلال ما قد يكون في كثير من الأحيان عملية مفاوضات وإعادة هيكلة مطولة.
هناك طريقة لتحقيق هذه الغاية. أولاً، من الممكن أن تعلن مجموعة العشرين أن البلدان التي ستتقدم بطلب للحصول على إعفاء بموجب الإطار المشترك، ستُـمـنَـح تعليقاً فورياً لخدمة الديون . هذا من شأنه أن يساعد في تثبيت استقرار اقتصاد البلد المتقدم بالطلب، وتحفيز الدائنين على التحرك بسرعة.
ثانياً، من الممكن أن يتفق المساهمون في صندوق النقد الدولي، على إتاحة التمويل لعدد قليل من البلدان التي تتفاوض على إعادة الهيكلة، وتواجه نقصاً فورياً في النقد الأجنبي.
أما عن البلدان التي أبرمت اتفاقيات مسبقاً مع صندوق النقد الدولي، والتي تواجه أيضاً نقصاً فورياً في التمويل، يحد من قدرتها على استيراد المواد الغذائية، وغير ذلك من السلع الأساسية، فمن الممكن أن يتيح لها صندوق النقد الدولي، بعض الأموال، من خلال استحضار بروتوكول الإقراض إلى المتأخرات، وبروتوكول الإقراض إلى المتأخرات الرسمية. هذا من شأنه أن يسمح لصندوق النقد الدولي، بالمضي قدماً في التمويل، حتى لو لم تتوصل الحكومة المتلقية إلى اتفاق مع دائنيها، شريطة أن تتقدم مسبقاً بعرض يمكن التعويل عليه لإعادة الهيكلة.
في نهاية المطاف، هذه الفترة تهدد بزيادة التكاليف الاقتصادية المرتبطة بأزمات الديون دون داعٍ. في الوقت الحالي، يتعين على المساهمين في صندوق النقد الدولي، أن يعملوا على تمكينه من استخدام المجموعة الكاملة من الأدوات المتاحة تحت تصرفه. إذا لم يحدث هذا، فقد تتحول أزمات الديون اليوم، بسهولة، إلى كوارث إنسانية.
* زميلة السياسات في مركز التنمية العالمية
** الرئيسة الفخرية لمركز التنمية العالمية وكبيرة زملائه