البنوك المركزية والنموذج الجديد
بيركلي ــ باري آيكنجرين
اعتدنا التفكير في حدود مسؤولية البنوك المركزية على أنها تتركَّز بشكل ضيق حول استقرار الأسعار، أو على الأكثر استهداف التضخم، مع ضمان التشغيل السلس لنظام الدفع في ذات الوقت. ولكن بعد أزمة 2008 المالية العالمية ثم جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الآن، رأينا البنوك المركزية تتدخل لدعم مجموعة متنامية من الأسواق والأنشطة، بالاستعانة بأدوات تمتد إلى ما يتجاوز أسعار الفائدة وعمليات السوق المفتوحة.
من الأمثلة الواضحة هنا مرفق السيولة التابع لبرنامج حماية الرواتب، الذي أنشأه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي بموجبه يوفر الاحتياطي الفيدرالي السيولة للمقرضين الذين يقدمون القروض للشركات الصغيرة في ظل الضائقة المرتبطة بالجائحة. ومن الواضح أن هذا ليس البنك المركزي الذي اعتدناه.
الآن نسمع أصواتاً تدعو إلى توسيع هذا النطاق بدرجة أكبر. فقد ذهبت كل من رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجادر وعضو مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لايل برينارد إلى استحثاث البنوك المركزية على التصدي لتغير المناخ. وعلى خلفية حركة (حياة السود مهمة)، حَـث النائب الأميركي ماكسين واترز من كاليفورنيا رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول على بذل المزيد من الجهد في التصدي لعدم المساواة، بما في ذلك على وجه التحديد عدم المساواة الـعِـرقية.
الواقع أن مثل هذه الدعوات ترعب المتزمتين من القائمين على البنوك المركزية، الذين يحذرون من أن تحميل البنوك المركزية بهذه المسؤوليات الإضافية يخاطر بتحويلها وأدواتها السياسية بعيداً عن هدفها الأساسي المتمثل في السيطرة على التضخم. ويحذرون من أن السياسة النقدية أداة فظة لمعالجة تغير المناخ وأشكال التفاوت وعدم المساواة، التي يمكن معالجتها بقدر أكبر من الفعالية من خلال فرض ضرائب على الانبعاثات الكربونية أو تعزيز قوانين الإسكان المتكافئ.
أكثر ما يقلق المنتقدين هو أن يتسبب السعي وراء هذه الأهداف الأخرى في تعريض استقلال البنوك المركزية للخطر. تتمتع البنوك المركزية بالاستقلالية التشغيلية من أجل ملاحقة تفويض محدد، وخاصة في ضوء الإجماع على أن الأهداف المحددة من خلال تفويض من الأفضل أن تُـنـتَـزَع من أيدي المسؤولين المنتخبين. لكن الاستقلالية لا تعني أن القائمين على البنوك المركزية غير خاضعين للمساءلة أمام الساسة والرأي العام. بل يتعين عليهم تبرير تصرفاتهم وشرح الكيفية التي تعمل بها قراراتهم السياسية على تعزيز الأهداف المنوطة بهم بموجب تفويضهم. ويمكن الحكم على نجاحهم أو فشلهم من خلال مدى تحقيق البنوك المركزية أهدافها التي يمكن التحقق من كل منها على حِـدة أو فشلها في تحقيقها.
في ظل تفويض موسَّع بشكل كبير، تصبح العلاقة بين أدوت السياسة والأهداف أكثر تعقيداً. وتصبح مهمة توصيل مبررات قرارات السياسة أشد صعوبة. كما تزداد صعوبة الحكم على النجاح أو الفشل. في الواقع، بقدر ما يكون تأثير السياسة النقدية محدوداً على تغير المناخ أو التفاوت بين الناس، فإن استهداف مثل هذه المتغيرات من شأنه أن يُـفضي إلى فشل البنوك المركزية. وقد يتسبب الإحباط الناجم عن الفشل في دفع الساسة إلى إعادة النظر في الاستقلالية التشغيلية التي تتمتع بها البنوك المركزية.
لا تخلو هذه الحجج من وجاهة. في الوقت ذاته، من غير الممكن أن يغفو القائمون على البنوك المركزية بهدوء في أسِـرَّتهم في مواجهة حالة طوارئ تتطلب أن يُـهـرَع الجميع لتقديم العون. إن الدعوات الموجهة إلى البنوك المركزية للتصدي لتغير المناخ وأشكال التفاوت تعكس إدراكاً واضحاً بأن هذه المشكلات ارتفعت إلى مستوى الأزمات الوجودية. وإذا تجاهلها القائمون على البنوك المركزية أو قالوا: "من الأفضل أن تتولى جهة أخرى معالجة هذه المشاكل الـمُـلِـحّة"، فسوف يُـنـظَـر إلى استجابتهم على أنها استعراض متغطرس وبالغ الخطورة لعدم الاكتراث. عند هذه النقطة، تصبح استقلاليتهم عُـرضة للخطر حقاً.
ما العمل إذن؟ تمتلك البنوك المركزية بصفتها جهات تنظيمية الأدوات الكفيلة بتمكينها من معالجة تغير المناخ، كما أن مسؤوليتها عن ضمان سلامة واستقرار النظام المالي تمنح صناع السياسات التفويض لاستخدامها. ومن الممكن أن تشترط البنوك المركزية الإفصاح المالي الشامل في ما يتصل بالمناخ. كما يمكنها أن تفرض متطلبات أكثر صرامة في ما يتصل برأس المال والسيولة على المؤسسات المالية التي تجعلها محافظ أصولها عُـرضة لمخاطر المناخ. الواقع أن مثل هذه الأدوات من شأنها أن تُـثني النظام المالي عن المشاركة في الاستثمارات غير الخضراء.
يتلخَّص التحدي المتمثل في فهم المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي بسبب تغير المناخ في أن الأحداث المناخية غير منتظمة. وعند وضع النماذج في التعامل معها، سيكون من المهم أن تتجنب البنوك المركزية الأخطاء التي ارتكبتها في وضع النماذج في التعامل مع جائحة كوفيد-19. نشأت هذه المشكلات لأن الاقتصاديين وعلماء الأوبئة زاولوا أعمالهم من صوامع منفصلة. وعلى هذا فقد يسأل المرء الدعاة من أمثال لاجارد وبرينارد: كم عدد علماء المناخ الذين وظَّفتهم البنوك المركزية؟ ومتى يبدأ عملهم؟
عندما يتعلَّق الأمر بأشكال التفاوت، تتمتع بعض البنوك المركزية بالفعل بالتفويض المناسب. في الولايات المتحدة، يكلف قانون إعادة الاستثمار المجتمعي لعام 1977 الهيئات التنظيمية، بما في ذلك بنك الاحتياطي الفيدرالي، بضمان تمكين الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط من الوصول إلى الائتمان بالقدر الكافي. وقد قام بنك الاحتياطي الفيدرالي بتفويض هذه المسؤولية إلى بنوك الاحتياطي الإقليمية الاثني عشر، والتي يؤديها كل منهم بطرق مختلفة. والواقع أن التفويض الأقوى من جانب مجلس الاحتياطي الفيدرالي حول كيفية ضمان المساواة في الحصول على الائتمان، مع الانتباه الصريح إلى التفاوت المرتبط بالـعِـرق، من شأنه أن يعزز الجهود الحالية.
سيكون من قبيل الانفصال عن الماضي أن تعالج بنوك مركزية أخرى، مثل البنك المركزي الأوروبي، مسألة وصول الأقليات والمجموعات المحرومة إلى الائتمان. لكن البرلمان الأوروبي من الممكن أن يصدر تعليماته بهذا الشأن. ومن الممكن أن يعمل مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي مع المؤسسات الوطنية التي يتألف منها النظام الأوروبي للبنوك المركزية لتلبية هذه الدعوة.
تخلِّف السياسة النقدية تأثيرات واضحة على قضايا تتجاوز التضخم والمدفوعات، بما في ذلك تغير المناخ وأشكال التفاوت وعدم المساواة. الواقع أن إنكار البنوك المركزية هذه الصلات، أو الإصرار على أنها مشكلة جهات أخرى، لا يخلو من خداع وخطورة. وأفضل طريقة لانطلاق البنوك المركزية إلى الأمام هي استخدام السياسة النقدية لاستهداف التضخم، مع توجيه سلطاتها التنظيمية نحو اهتمامات أخرى مُـلِـحّـة.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
باري آيكنجرين أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. أحدث مؤلفاته كتاب "الغواية الشعبوية: المظالم الاقتصادية وردود الفعل السياسية في العصر الحديث".
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org