معالجة مشكلة التضخم

روبرت جيه بارو

كمبريدج ـ قبل خمسة عقود، كانت أكبر تحديات الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة تتمثل في ارتفاع معدلات التضخُّم، حيث بلغ متوسط معدل التضخم أكثر من 6٪ في السبعينيات وارتفع إلى 10٪ بحلول نهاية العقد. ثمَّ تمَّ تعيين رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بول فولكر من قِبَل الرئيس جيمي كارتر عام 1979 وأعاد تعيينه الرئيس رونالد ريجان عام 1983.

في عام 1981، نجح فولكر في التغلُّب على آفة التضخُّم من خلال اعتماد سياسة أسعار الفائدة المرتفعة. من خلال التمسُّك بهذه السياسة في مواجهة الركود الاقتصادي، أقنع فولكر الأسواق المالية والشركات والأسر بأنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي سيفعل كل ما هو ضروري لضمان معدل تضخُّم مُنخفض ومُستقر في المستقبل.

بعد مرور عدة سنوات، أصبح هذا الالتزام القوي لأحد كبار صُنّاع السياسات النقدية نموذجًا يُحتذى به لماريو دراغي، حين التزم، بصفته رئيسًا للبنك المركزي الأوروبي في عام 2012، "بفعل كل ما يلزم" للحفاظ على اليورو. لا شكَّ أن نجاح دراغي في هذه المهمة يُفسِّر سبب توليه للتو منصب رئيس الوزراء في الحكومة الإيطالية.

يكمن أساس إرث فولكر في ترسيخ توقعات التضخم على المدى الطويل بقيمة منخفضة، والتي بلغت نحو 2٪ سنويًّا منذ التسعينيات. تمَّت ترجمة هذا التثبيت إلى استقرار فعلي للأسعار، مع الحفاظ على التضخُّم عند معدل متوسط ​​منخفض يبلغ نحو 2٪.

بعد بناء الثقة بشأن التضخُّم المتوقِّع على المدى الطويل، سرعان ما أدرك بنك الاحتياطي الفيدرالي أنَّ لديه مجالاً كبيرًا لمناورة سياسية قصيرة الأجل: يمكنه تعديل أسعار الفائدة الاسمية قصيرة الأجل وكميات المجاميع النقدية دون المساس بمصداقيته على المدى الطويل. على سبيل المثال، عمل البنك على إبقاء المُعدلات الاسمية قصيرة الأجل قريبة من الصفر لفترات طويلة، فضلاً عن توسيع ميزانيته العمومية بشكل كبير، مع الحفاظ على الركيزة الرئيسة للتضخُّم المنخفض المتوقَّع على المدى الطويل.

لسوء الحظ، أصبح رأس المال الذي خلفه فولكر اليوم مُهددًا من قِبَل السياسات النقدية والمالية المتهورة. لا يبدو أنَّ الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي في الوقت الحاضر تخضع لأي قيود، في حين بلغت نسبة العجز المالي إلى الناتج المحلي الإجمالي مُستويات غير مسبوقة في زمن السلم.

واليوم، يُؤكد بنك الاحتياطي الفيدرالي بثقة تامة أنَّ ما يفعله لن يؤثر في توقعات التضخم طويلة الأجل. في الواقع، يسعى إلى رفع معدل التضخم من نحو 1.5٪ سنويًّا نحو هدفه البالغ 2٪ تقريبًا. ولكن بدلاً من القلق بشأن معدل التضخم دون المستوى المستهدف الحالي، يتعين على بنك الاحتياطي الفيدرالي القلق أكثر بشأن احتمال حدوث ارتفاع حاد في معدلات التضخم المتوقع على المدى الطويل.

يجب النظر في أرقام التضخم الحالية في الولايات المتحدة. قبل الركود الاقتصادي الناتج عن اندلاع جائحة كوفيد 19، من أوائل عام 2010 إلى أوائل عام 2020، بلغ متوسط معدل التضخم حسب مؤشر أسعار المستهلك(CPI)  1.7٪ سنويًّا، ومتوسط المعدل المحسوب لمقياس مستوى الأسعار المفضل لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي - مُعامل امتصاص التضخم للنفقات الاستهلاكية الشخصية - كان مماثلاً، حيث بلغ نسبة 1.5٪ سنويًّا.

يتمثَّل المقياس المعقول للتضخم المتوقع طويل الأجل في معدل تعادل العوائد مع التضخم لعشر سنوات، والذي يساوي الفرق في العائد بين عائد سندات الخزانة الأمريكية التقليدي وعائدات سندات الخزانة لمدة عشر سنوات المعتمدة على معدل التضخم. في الفترة ما بين يناير / كانون الثاني وفبراير / شباط 2020، بلغ هذا المعدل 1.7٪ سنويًّا، حيث أصبح معدل التضخم المتوقع على المدى الطويل مُتوافق نسبيًّا مع معدل التضخم الفعلي الأخير. في أعقاب ذلك، أدى الركود الحاد الذي بدأ في مارس / آذار 2020 إلى انخفاض قصير الأجل في مستويات الأسعار، مما أبقى التضخم مؤقتًا عند مستويات سلبية (4٪ سنويًّا من مارس / آذار إلى مايو / أيار). في الوقت نفسه، انخفض التضخم المتوقع على المدى الطويل إلى نحو 1٪ سنويًّا.

ومع ذلك، سرعان ما عرفت معدلات التضخم ارتفاعًا ملحوظًا - بمتوسط 3٪ سنويًّا من مايو / أيار 2020 إلى يناير / كانون الثاني 2021 - مع زيادة معدل التضخم المتوقع على المدى الطويل بشكل كبير من 1٪ سنويًّا في الفترة ما بين شهر مارس / آذار ومايو / أيار 2020 إلى 2.2٪ بحلول فبراير / شباط 2021. ومن ناحية أخرى، عكس هذا التغيير جزئيًّا زيادة في عوائد سندات الخزانة التقليدية، من 0.7٪ إلى 1.2٪، وانخفاض جزئي في عائد السندات المعتمدة على مُعدل التضخُّم من -0.3٪ إلى -1٪.

تُفيد الأسواق المالية أنَّ ارتفاع معدلات التضخم منذ مايو / أيار الماضي لن يكون مؤقتًا. تُشير عائدات السندات إلى تضخُّم طويل الأجل يتجاوز 2٪ سنويًّا. وعلى الجانب المشرق، لا يزال هذا المعدل أقل بكثير من نسبة 6٪ في السبعينيات.

مرة أخرى، يبدو بنك الاحتياطي الفيدرالي، ولاسيما رئيس المجلس الحالي جيروم باول، واثقًا إلى حدٍّ كبيرٍ بقدرته على كبح جماح التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة الاسمية قصيرة الأجل إذا لزم الأمر. تكمن المشكلة في أنَّ رفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل لن يكون له أي تأثير في التضخُّم بمجرد تثبيت مُعدل التضخم المرتفع المتوقع على المدى الطويل.

تتمثل الوسيلة الوحيدة للسيطرة على التضخُّم في فلسفة "القيام بكل ما يلزم" التي اعتمدها فولكر في أوائل الثمانينيات. يجب أن تُدرك الأسواق المالية والشركات والأسر المعيشية أنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي، بالتعاون مع وزارة الخزانة، سيحافظ على أسعار فائدة مُرتفعة حسب الحاجة حتى في حالة الركود الاقتصادي.

يتعيَّن على باول تأكيد مخاطر ارتفاع معدلات التضخُّم، كما يليق برئيس البنك المركزي. وينبغي لوزيرة الخزانة جانيت يلين - وهي رئيسة سابقة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي - أن تُشدِّد على الانضباط المالي، بدلاً من تفضيل النهج "الضخم" الذي لا يولي إلا القليل من الاهتمام للديون الحكومية غير المُقيدة.

لضمان عدم ارتفاع معدلات التضخم في المستقبل، يتعيَّن على صُنّاع السياسة اعتماد نهج فولكر أو دراجي. لكن ما يُقلقني هو تبديد صُنّاع السياسة الضعفاء، غير القادرين على تقديم الالتزامات الجادة، لرأس المال الذي أنشأه فولكر بتكلفة عالية منذ أكثر من 30 عامًا.

روبرت بارو هو أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، وباحث زائر في معهد إنتربرايز الأمريكي وباحث مُشارك في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org