حرب بوتين والطاقة العالمية
بقلم نيك بتلر
لندن- إنَّ قرار الخروج من روسيا الذي اتخذته العديد من الشركات متعددة الجنسيات، بعد عقود من التعاون بين الشركات العالمية واقتصاد روسيا الذي تهيمن عليه الدولة، يشير إلى أنَّ المستثمرين لم يعد بإمكانهم الاعتماد على النظام لفرض سيادة القانون. ومن الواضح الآن أنَّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي كان يُنظَر إليه في الماضي على أنه مستبد يعتمد سياسة التحديث، مدفوع الآن بهواجس شخصية، وليس بحساب منطقي للتكلفة والعائد. وعلى الرغم من أنَّ روسيا كنت على الدوام بيئة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للشركات، فإنَّ أكثر الشركات العالمية خبرة ضاقت بها ذرعًا.
وفي قطاع الهيدروكربون الذي يكتسي أهمية كبيرة في روسيا، أشارت شركتا BP (بريتيش بيتروليوم) وShell (شيل) إلى نيتهما بيع الأصول الحالية، بما في ذلك ما تملكهما من أسهم في المشروع الضخم لتطوير الطاقة في جزيرة سخالين (قبالة ساحل المحيط الهادئ الروسي)، وأسهم في شركة النفط الحكومية العملاقة Rosneft (روزنيفت)، وحصصهما في مشاريع مشتركة أخرى. وسيتعين على شركات الطاقة العالمية البحث في مكان آخر عن الجيل التالي من مشاريع تنمية الموارد، وسيكون لهذا البحث آثار كبيرة في الانتقال الأوسع بعيدًا عن الهيدروكربونات.
إنَّ التحوُّل العالمي في مجال الطاقة بدأ للتو. وسيظلُّ العالم بحاجة إلى نحو 100 مليون برميل من النفط يوميًّا خلال العقدين المقبلين على الأقل، بتوازٍ مع تزايد حجم الغاز الطبيعي. ولا تزال منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقدمان أفضل الآفاق للاكتشافات الجديدة، على الرغم من التحديات المستمرة للعمل في دول مثل العراق وليبيا. وعلى العموم، من المرجّح أن تزداد قيمة أصول النفط والغاز، وهناك فرصة جيدة لتجديد نشاط الاندماج والاستحواذ في الصناعة.
ولكن المخاطر الجديدة داخل روسيا، ستؤدي إلى تثبيط الاستثمار في المستقبل وإثارة قلق المستثمرين في قطاعات أخرى أقل وضوحًا. إذ ستشكّل الفوضى الاقتصادية، والتضخم المتزايد، والحكومة التي قد تنتقم من العقوبات الغربية تحديات كبيرة. ومن المحتمل تخفيض قيمة الأصول، مما يؤثر في قوة بعض ميزانيات الشركات. ومن المرجّح أن تصبح رسوم التأمين للعاملين في روسيا باهظة الثمن. وقد يسعى المزيد من الروس إلى مغادرة البلاد، آخذين معهم كل ما يملكونه من أموال، مما سيزيد من تدفق الأموال إلى الملاذات الآمنة في جميع أنحاء العالم.
إنَّ بوتين مخطئ إذا كان يعتقد أنَّ خروج شركتي (بريتيش بتروليوم) و(شيل) وغيرهما لن يعيق تنمية قطاع النفط والغاز الروسي على المدى الطويل. فعلى مدى العشرين عامًا الماضية، ساعدت التكنولوجيا المتقدمة من الخارج قطاع الطاقة الروسي القديم والخاضع لسيطرة الدولة على تحديد موارد جديدة وتطويرها، وتحسين كفاءته وأدائه. وإذا كان لقطاع الطاقة في روسيا أن يظلَّ حيويًّا، فسوف يحتاج إلى المزيد من الاستثمار في النفط والغاز، وأنظمة النقل، وخطوط الأنابيب، من أجل الوصول إلى أسواق جديدة في الشرق. وبدون وجود شركات الطاقة الدولية الرائدة في العالم، سيكون من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، أن يجذب القطاع الأموال التي يحتاجها.
وسينعكس ذلك أيضًا على أوروبا حيث أدّى غزو بوتين إلى نقل أمن الطاقة إلى قمة جدول الأعمال السياسي. والآن، تسعى ألمانيا، التي كانت في يوم من الأيام تعتمد على الموردين الروس، إلى تنويع مصادر طاقتها، حتى إنها تعيد النظر في إطالة عمر محطاتها النووية الثلاث المتبقية. وهذه أخبار سارة بالنسبة لشركات الغاز الطبيعي المسال، التي تملك بالفعل أكثر من نصف الغاز المتداول دوليًّا، وربما تُفرح أيضًا القطاع النووي.
ونظرًا لأنَّ عملية توليد الطاقة النووية توفّر إمدادات كهربائية منتجة محليًّا ومحصنة ضد تقلبات السوق الدولية، فقد تعدُّ مفتاحًا لتجنُّب الاعتماد على الطاقة إلى درجة خطيرة. ويجب أن تصبح المفاعلات النووية الصغيرة المعيارية مثل تلك التي طورتها شركة Rolls-Royce، (رولز رويس) أكثر جاذبية في المملكة المتحدة، وبعض دول أوروبا، وبلدان العالم النامي. لكن الصناعة ستواجه انتكاسة إذا تسبَّب القتال في أوكرانيا في أيِّ ضرر خطير للمنشآت النووية في البلاد.
وعلى الرغم من أنَّ الضغط للابتعاد التدريجي عن الغاز سوف يشتد في أوروبا، فإنَّ الطلب عليه سيستمرُّ في النمو في مناطق أخرى كثيرة من العالم. وفي مناخ يتسم بانعدام الأمن في مجال الطاقة، من المرجّح أن تسود المعاملات المدعومة المباشرة التي تُجرى بين كل دولة وأخرى. وتقود الصين هذه العملية، لكنها ليست القوة الوحيدة التي لديها حافز لبناء المزيد من الروابط مع المنتجين في الشرق الأوسط، وإفريقيا، وأماكن أخرى. وبعد صفقة الغاز الأخيرة مع روسيا، من المرجّح أن تؤدي أحداث الأسابيع القليلة الماضية إلى إعادة تقييم من جانب الصين لاعتمادها المتزايد على الإمدادات الروسية (من سيبيريا وساخالين)، كما حدث في ألمانيا.
وفي الوقت نفسه، من المحتمل أن تُمنَح سياسات مكافحة تغيُّر المناخ قدرًا أقل من الأولوية. إذ رغم أنَّ زيادة المعروض من مصادر الطاقة المتجددة يعزِّز أمن الطاقة، فإنه قد يكون ضروريًّا تأجيل ما يلزم من إنفاق عام واسع النطاق للاستثمار في مشاريع المناخ. ومع ارتفاع أسعار الطاقة الذي أدى إلى ارتفاع فواتير التجزئة، لن ترغب الحكومات في فرض التكاليف الإضافية للأجندة الخضراء على كياناتها.
إنَّ الحرب الروسية في أوكرانيا تحمل فرصًا ومخاطر أيضًا. إذ يظلُّ الاستثمار في الموارد الطبيعية، بما في ذلك الغذاء والمعادن والطاقة، ضروريًّا كما كان دائمًا. وقد تحد حرب باردة متجددة من سمات العولمة التي حددت السنوات الثلاثين الماضية؛ لكن الحياة الاقتصادية تستمر. ولم يغير أي شيء في الوضع الحالي الديناميكيات الأساسية للاقتصاد العالمي، التي تتمثل في النمو المدفوع بالتزايد المستمر في عدد السكان (نحو 10000 في الساعة)، واستمرار انتشار الرفاهية، لا سيما في آسيا. ورغم كل التعقيدات والخسائر التي سببها ما يحدث في أوكرانيا، فإنَّ هذه الديناميكيات ستظلُّ القوى الأساسية التي تقود قطاع الطاقة.
ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch
نيك بتلر، أستاذ زائر في كلية كينغز كوليج في لندن، والرئيس المؤسس لمعهد Kings Policy، (كيغز بوليسي)، ورئيس Promus Associates.(بروموس أسوشييتس).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org