رائدة أعمال ومُـحتالة
وليام جانواي
كمبريدج ــ أثارت إدانة إليزابيث هولمز بتهمة جرائم الاحتيال والتي ارتكبتها بوصفها مؤسِّـسة لشركة Theranos ورئيستها التنفيذية مناقشة محتدمة حول ما تعنيه هذه الواقعة لاقتصاد الإبداع.
تُـرى هل خلت من الحيل جعبة هولمز- التي كانت تنفَّذ بقوة عقيدة "تظاهر بامتلاكها إلى أن تتمكَّن من صنعها"- السائدة في وادي السليكون؟ هل كان الرأسمالي المغامر والمستثمر في شركة Theranos، تيم درابر، محقًّا عندما أعرب عن قلقه من أن تكون إدانتها سببًا في الحدِّ من "الاستعداد للمراهنة" على نوعية من روّاد الأعمال الذين "جعلوا من وادي السليكون محرِّكَ الإبداع في العالم"؟ أم إنَّ الأمر أشدُّ تعقيدًا؟
تسلط محاكمة هولمز وإدانتها في حقيقة الأمر الضوء على اتجاهين أصليين في الاقتصاد السياسي والمالي الأميركي. يتمثّل الأول في التراجع العام عن محاكمة المتلاعبين الماليين كمجرمين، وهو تطوُّر واضح منذ سجن كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة Enron وشركة WorldCom في أعقاب انهيار فقاعة الإنترنت خلال الفترة من 1998 إلى 2000.
لنتأمل هنا الفارق بين الأحداث الناجمة عن كارثة المدخرات والقروض في ثمانينيات القرن العشرين وما أعقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008. في الحالة الأولى، كما يلاحظ جيسي إيزنجر من ProPublica، "حاكمت وزارة العدل أكثر من ألف شخص، بما في ذلك كبار المسؤولين التنفيذيين في العديد من أكبر البنوك الفاشلة". في الحالة الأخيرة، على النقيض، لم يذهب سوى مصرفي واحد كبير إلى السجن".
يوثِّق كتاب إيزنجر الصادر في عام 2017 بعنوان "The Chickenshit Club" تحولات عميقة في المواقف داخل وزارة العدل ــ وخاصة داخل مكتب المدعي العام للمنطقة الجنوبية من نيويورك، الذي تسري سلطته القضائية على وال ستريت ــ خلال العقد الأول من هذا القرن. يتتبع إيزنجر هذا التطوُّر إلى تصفية شركة آرثر أندرسون للمحاسبة في عام 2002، بعد إدانتها بعرقلة العدالة فيما يتصل بعملها لصالح شركة Enron. بدلًا من السعي إلى تحميل المسؤولين التنفيذيين كأفراد المسؤولية الجنائية عن الخسائر المالية الهائلة، عملت السلطات مرارًا وتكرارًا على تسوية الاتهامات مقابل غرامات دفعها في النهاية المساهمون بدلًا من المسؤولين التنفيذيين.
كان الاتجاه العام الثاني متمثلًا في التدفُّق الهائل من "رأس المال غير التقليدي" (من المكاتب الأسرية، والصناديق المشتركة، وصناديق التحوط، وصناديق الثروة السيادية، وأصحاب المليارات الأفراد) إلى الشركات البادئة المدعومة برأسمال استثماري على مدار السنوات الست الأخيرة. في عام 2021، تجاوز رأس المال السنوي المرتبط مباشرة بصناديق رأس المال الاستثماري أخيرًا مبلغ 100 مليون دولار جرى جمعها في عام 2000، لكن مبالغ أكبر استثمرت من قِـبَـل كيانات غير استثمارية في شركات بادئة مدعومة برؤوس أموال استثمارية، وصل مجموعها الإجمالي رقمًا غير مسبوق (330 مليار دولار)، وهذا يقرب من ضعف المبلغ لعام 2020.
ارتفعت تقييمات المرحلة الأخيرة، مدفوعة بهذا الانفجار، إلى عنان السماء جنبًا إلى جنب مع أسواق الأسهم العامة، والتي كانت مدفوعة إلى حد كبير بشركات التكنولوجيا التي تطمح هذه الشركات البادئة إلى محاكاتها. على ذات القدر من الأهمية، يقبل المستثمرون بالضرورة نقص السيولة ــ عدم القدرة قانونيًّا على بيع أسهمهم ــ عند الالتزام برأس المال لمشاريع خاصة. وفي كثير من الحالات ــ مثل حالة Theranos ــ وافقوا على شروط تقضي بمنح المؤسِّسين سيطرة شبه مطلقة، بصرف النظر عن مقدار رأس المال الذي يجري جمعه.
كانت السياسة النقدية المتساهلة بدرجة غير مسبوقة السائدة من عام 2008 القوة الرئيسة الدافعة وراء نشوء هذه الفقاعة. وقد خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وغيره من البنوك المركزية الرئيسة أسعار الفائدة إلى (وفي بعض الأحيان ما دون) "الحد الأدنى الصفري"، كما حشد مجموعة من الأدوات غير التقليدية ــ تحت عنوان "التيسير الكمي" ــ لإغراق الأسواق المالية بالنقد.
قبل 150 عامًا، لخص محرر مجلة الإيكونوميست والتر باجوت النتيجة المتوقعة لهذه السياسات:
"علمني تاريخ الدورة التجارية أنَّ فترة من انخفاض معدل العائد على الاستثمارات تُـفضي حتمًا إلى استثمار غير مسؤول... فلن يقبل الناس 2%، ولا يمكنهم تحمُّل خسارة الدخل. بدلًا من ذلك، يستثمرون مدخراتهم التي جمعوها بشق الأنفس في شيء مستحيل ــ قناة كامتشاتكا، أو خط سكك حديدية إلى واتشيت، وهذا أشبه بخطة لإحياء البحر الميت".
الواقع أنَّ الآلة القادرة على إجراء 200 فحص دم من وخزة إبرة واحدة جديرة بقائمة باجوت.
الآن وقد اقترب عصر التيسير الكمّي من نهايته، كما يبدو، فسوف تكون النتيجة الأكثر ترجيحًا في الأمد البعيد تحوُّل في ميزان القوى من روّاد الأعمال إلى الممولين. سيشكِّل هذا انفصالًا حادًّا عمّا رأيناه في عام 2020، عندما استخدمت أكثر من 40% من الطروح العامة الأولية بنية أسهم من فئة مزدوجة لترسيخ سيطرة المؤسسين. لا يستطيع المستثمرون قبل الطرح العام الأولي في هذه الحالات بيع أسهمهم أو فصل الرئيس التنفيذي. ومثلهم كمثل روبرت مردوخ وبيتسي ديفوس عندما اشتريا في Theranos، فإنهم سُذَّج وليسوا شركاء.
قبل نحو 40 سنة، قمت بصياغة تحوط مزدوج ضد حالة جذرية من انعدام اليقين التي تصاحب الاستثمار في الشركات البادئة العاملة خارج حدود التكنولوجيا: "النقد والتحكُّم". يحتاج المستثمرون إلى القدر الكافي من الأموال النقدية لشراء الوقت اللازم لفهم مفاجأة مؤلمة، والقدر الكافي من السيطرة للقيام بشيء حيال ذلك (والذي يبدأ عادة بإقالة الرئيس التنفيذي).
يمتلك المستثمرون غير التقليديين الذين تكدَّسوا في شركات المرحلة الأخيرة المدعومة برأس المال المغامر وفرة من السيولة النقدية، لكنهم يفتقرون عادة إلى السيطرة اللازمة. تُـظْـهِـر قصص Uber، وWeWork أنَّ رأس المال المغامر المحترف الرائد ربما يضطر، إلى أن تتغيَّر القواعد، إلى اللجوء إلى القضاء للتغلُّب على الشروط "الداعمة لروّاد الأعمال" التي قبلها. تفقد العديد من نماذج الأعمال التجارية البادئة الأخرى المصداقية بالفعل. على سبيل المثال، وفقًا لتقرير The Information في وقت سابق من هذا الشهر، "تحاول شركات التوصيل الفوري البادئة تجربة تكتيك جديد لتقليل معدلات حرق الوقود الباهظة: "التوصيل الأبطأ".
تذكرنا قصة Theranos بأنَّ جمع رأس المال لمشروع أشبه "بإحياء البحر الميت" من غير الممكن أن يحدث إلا لأنَّ المستثمرين ــ وخاصة غير التقليديين ــ أصبحوا يائسين في بحثهم عن عوائد حقيقية إيجابية. ويبدو أنَّ هولمز باركتها "عبادة روّاد الأعمال"، التي تعمل على تمكين المؤسِّسين من تأليب المستثمرين المحتملين ضد بعضهم بعضًا في السعي وراء أكثر الصفقات ودية. وإلا فكيف يتسنّى لشركة بادئة في مجال التكنولوجيا أن تجمع أموالًا لبدء مشروع من هذا القبيل من أمثال لاري إليسون، ودون لوكاس، ودرابر، بشروط منحتها السيطرة بنسبة 100%.
الحق أنَّ إدانة هولمز قد تنذر بتحوُّل واسع آخر. كثيرًا ما يمزح مات ليفين من Bloomberg قائلًا: "إَّن كلَّ شيء في الأوراق المالية هو احتيال"، لأنَّ أيَّ انخفاض في قيمة أسهم شركة عامة من المرجح أن يؤدي إلى إقامة دعوى قضائية من جانب المستثمرين الخاسرين. لكن بعض تصرُّفات ريادة الأعمال هي في حقيقة الأمر احتيال باستخدام أوراق مالية. بالنسبة لأولئك الذين ليس لديهم مصلحة في المشاركة في فقاعات مضاربة عابرة تضخمها البنوك المركزية، تقدم إدانة هولمز بعض الارتياح في عصر الأكاذيب الكبرى. أمَّا أولئك الذين يخشون أن يُـفـضي التطبيق اللائق للقانون إلى خسارة الدينامية الإبداعية، فيجدر بهم أن يتذكروا أنَّ الثورة الرقمية برمتها نشأت في هذا السياق.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
وليام جانواي شريك محدود خاص في شركة الأسهم الخاصة Warburg Pincus، وهو مُـحاضِـر الاقتصاد المنتسب في جامعة كمبريدج، ومؤلف كتاب "ممارسة الرأسمالية في اقتصاد الإبداع" (مطبعة جامعة كمبريدج، 2018).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org