الوقوف على إمكانات أميركا لمكافحة الجوائح
سايمون جونسون
واشنطن العاصمة ــ تحتاج أي دولة إلى ثلاثة أشياء كي تفلت من قبضة أي جائحة. أولا وقبل كل شيء، تحتاج إلى فهمٍ كافٍ للمرض، بما في ذلك كيفية حدوث انتقاله. الأمر الثاني، ضرورة أن تتوافر لها التكنولوجيا التي ستقدم حلاً يقوم على العلم، سواء كان علاجاً أو مصلاً أو طريقة فعّالة لمنع انتقال المرض. أما الشيء الثالث فيتمثَّل في حتمية قدرتها على الإنفاق على ما ينبغي فعله.
لو نظرنا في تلك الأمور الثلاثة سنجد أنها في النهاية تتعلّق بالاقتصاد. فهل استثمرت الحكومة بشكل كافٍ في توفير المعرفة العلمية الأساسية؟ وهل تحظى الدولة بعددٍ وافٍ من العلماء المختصين الأكفاء القادرين على فهم المرض ومساره واستيعاب المعرفة من الباحثين والأطباء في الدول الأخرى؟ وهل يوجد جهاز للصحة العامة تتوافر له الموارد الكافية للتعامل مع الطوارئ عند نشوئها؟ وهل يستطيع كل فرد تحمُّل تكاليف حماية نفسه؟
يعدُّ الطاعون الأسود أشد الجوائح المسجلة في التاريخ فتكا ــ إذ يحتمل أن تكون تلك الموجة من الطاعون الدبلي التي اجتاحت أوروبا في القرن الرابع عشر قتلت ثلث سكان العالم وقتها. لم يكن أحد يدرك حينها سبب الجائحة، وهي بكتيريا تحملها البراغيث التي تعيش على الفئران. وقبل أن يكشف العلم الحديث عن سبب تفشي المرض، كانت البشرية عاجزة بدرجة كبيرة عن الدفاع عن نفسها أمام مسببات المرض.
بحلول منتصف القرن التاسع العشر، كان العالم قد حقَّق تقدماً كبيراً، يعود الفضل فيه جزئياً إلى إتقان فحص دراسة الأشياء بالمجهر. لكن كان لا يزال هناك خلاف واسع حول كيفية تنقية المعرفة العلمية وتحويلها إلى تكنولوجيا مفيدة لمقاومة الأمراض مثل العقاقير الصيدلانية. وخلال القرن التالي، أثمر الاستثمار في الحملات واسعة النطاق للتوعية بالصحة العامة عن بنية تحتية للخدمات الصحية، ومياه نظيفة، وتحصين باللقاحات ضد غالبية أمراض الأطفال في نهاية الأمر. ووصلت الصحة العامة الحديثة ذروة فعاليتها ومكانتها في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية مع القضاء على الملاريا وشلل الأطفال في الدول المتقدمة.
غير أننا للأسف لم نتوصل قط بشكل كامل لطريقة تُمكن الجميع من الحصول على الرعاية الصحية الجيدة بسعر ميسور. ويصدق هذا حتى على الولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، التي تعاني اليوم من تبعات وعواقب هذا الأمر.
لا تعاني الولايات المتحدة من مشكلة في المعرفة العلمية، فقد كان علماء الأوبئة في البلاد على علم ومعرفة بطبيعة التهديد في يناير/كانون الثاني، وبالتالي سعى الباحثون لإتقان فهمهم لفيروس كورونا المستجد. لكن العمل على علاجات وأمصال محتملة لا يزال قائماً، رغم امتلاك الولايات المتحدة التكنولوجيا الكافية، ممثلة في فحوص تشخيصية مخبرية واسعة النطاق، لدرء المرض منذ إبريل/نيسان على الأقل.
لكن لا بدَّ أن يكون هناك من يدفع ثمن الفحوص. تقل التكلفة الهامشية الحقيقية لكل فحص للكشف عن الفيروس عن عشرين دولاراً، كما أن تجميع الفحوص يمكن أن يهبط بالسعر لأقل من خمسة دولارات لكل اختبار للفرد بلا شك. لكن النظام الأميركي للأسف يحتم دفع سعر "السوق"، ومن ثمَّ يصل السعر في أجزاء كثيرة من البلاد إلى 100 دولار أو يزيد لكل فحص. ومع توصية الخبراء بإجراء فحوص للكشف عن الفيروس مرة ــ أو حتى مرتين أسبوعياً ــ فمن يقدر على تلك التكلفة؟
نعلم أنَّ من المفترض أن يكون الفحص المجاني متاحاً في الوقت الحالي لمن تظهر عليه أعراض فيروس كوفيد-19 في الولايات المتحدة، حيث يغطي التأمين تكلفة الفحص، أو تغطيه الحكومة إذا تعذر ذلك. لكن التغلب على الفيروس يتطلَّب فحصاً روتينياً للجميع، حتى لمن لا يشعرون بأعراض الفيروس. وهذا هو نوع "المراقبة" للصحة العامة الذي أرسته جامعات كثيرة لحماية كل الموجودين بالحرم الجامعي. فقد أنشأت بعض الجامعات مختبراتها الخاصة بها لهذا الغرض، أو دعمت تطوير مختبرات أقل تكلفة ــ مما أضاف إلى طاقة الفحص في الدولة. كذلك أتاحت بعض البرامج والمبادرات العامة المهمة، مثل أوقفوا الانتشار في ماساتشوستس، فحصاً مجانياً في البؤر الساخنة المحتملة.
غير أنَّ غالبية الأشخاص لا يقدرون على دفع تكلفة الفحص المتكرر بكثرة، لذا يُتركون ومن حولهم دون حماية. كما لا توجد تقريباً أي حلول فعلية للفحص لدعم المعلمين والموظفين والأسر في مؤسَّسات رعاية الأطفال وكذلك المدارس من الروضة حتى الصف الثاني عشر.
وقد تنبَّه الكونجرس الأميركي إلى تلك القضية مبكراً وخصَّص 25 مليار دولار في الربيع لغرض إتاحة الفحص على نطاق أوسع. لكن وفقاً لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية، فإنَّ نسبة تتراوح بين 85 و90% من هذا المبلغ لم تُصرَف حتى الآن.
بلا شك كان ينبغي للولايات المتحدة استثمار أموال أكثر في المجال العلمي خلال العقود الأخيرة، وإنشاء جهاز للتنبؤ بالفيروسات ومسببات الأمراض، وبناء نظم مرنة للصحة العامة تقوم على التشخيص الفعّال الاقتصادي التكلفة. لكن رغم إخفاق الولايات المتحدة في تنفيذ أي من تلك الأشياء، فإنها لا تزال قادرة على تقليص الضرر الناجم عن الجائحة.
ربما لن يكون مبلغ الخمسة وعشرين مليار دولار كافياً لتغطية احتياجات أميركا من الفحص في تلك المرحلة، أو لعلَّهم يتوصَّلون إلى طرق أفضل للفحص في المنازل بدقة أكبر وتكلفة أقل. وقد لا تضطر المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها للتراجع عن دليلها الجديد الخاص بإرشادات الفحص بطريقة مربكة وربما مضللة.
بيد أنَّ الأزمة ــ والتي تعدُّ عالمياً أكثر الأزمات الوبائية تعطيلاً على مدار أكثر من 600 عام ــ في طريقها للتسبُّب في أكبر كارثة اقتصادية في العصر الحديث. لذا يجدر بنا أن نكون واقعيين. أَنْفقوا الخمسة وعشرين مليار دولار المتاحة على الفحوص المطلوبة بالفعل الآن، واستغلوا القدرة الإنفاقية للحكومة في التفاوض على أسعار أقل، مع إتاحة معدل عائد معقول على رأس المال للمختبرات التي تكافح من أجل التوسُّع. ضعوا البنية التحتية اللازمة لدعم الفحوص المجمعة. اشتروا فحوص كافية لحماية كل من يحتاج للذهاب إلى العمل بنفسه، ونفذوا برنامجاً شاملاً للصحة العامة يقوم على تلك الفحوص.
كما تُظهر تجارب الدول الأخرى، فإنَّ تنفيذ أيٍّ من تلك الخطوات ليس بصعب. ونحن في غنى عن أيِّ تشريع جديد أو قرار بتخصيص جديد للأموال. خلاصة القول: إنَّ الولايات المتحدة يتوافر لها كلُّ شيء تحتاجه أيُّ دولة لاحتواء الجائحة ــ عدا القيادة القادرة على التنفيذ.
ترجمة: أيمن أحمد السملاوي Translated by: Ayman A. Al-Semellawi
سايمون جونسون الرئيس المشارك لتحالف سياسات كوفيد-19، وأستاذ في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org