استعادة الرخاء

إدموند فيلبس، محمد سلحوت

نيويورك ــ بينما يفرض السخط العام المحاسبة السياسية كضرورة حتمية في أغلب الاقتصادات المتقدمة، يُـعـاد تصور العقد الاجتماعي الذي يربط الأسواق والدول والمواطنين معًا. في الواقع، يقدم الغضب والشعور بالغربة والانسلاخ اليوم فرصة لمعالجة التصدعات التي أصبحت تعيب الأسس الاقتصادية التي تقوم عليها مجتمعاتنا، بدءًا من الولايات المتحدة.

الآن، يخضع النشاط التجاري للتحول الرقمي الواسع النطاق بسرعة كبيرة، مما يشير إلى أنَّ أكبر الشركات وأكثرها نجاحًا في قطاع التكنولوجيا ــ من أمازون إلى زووم ــ ستظلُّ بين قوى السوق المهيمنة في المستقبل المنظور. ولكن في حين تمتع المستثمرون في هذه الشركات السريعة النمو بمكاسب مالية كبيرة، فإنَّ هذه لم تكن حال معظم الآخرين. لقد فشلت شركات التكنولوجيا الرائدة ليس فقط في خلق القيمة لصالح العديد من أصحاب المصلحة فيها، بل وأيضًا في المساهمة في النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة في عموم الأمر.

الآن، بعد أن تكيَّف الجميع مع آثار جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، تحوَّل تركيز العديد من قادة الأعمال مرة أخرى إلى الأرباح الفصلية وأسعار الأسهم. في هذا الشهر فقط، أعلنت ميكروسوفت، ثاني أعلى الشركات المتداولة علنا قيمة في العالم، عن خطة بقيمة 60 مليار دولار لإعادة شراء أسهمها وزيادة أرباحها الموزعة. في الوقت ذاته، كان الحديث قليلًا للغاية حول ما يمكن أن تقوم به فِـرَق الإدارة لخلق قيمة طويلة الأجل للمساهمين وأصحاب المصلحة على حدٍّ سواء.

تشير أدلة متزايدة مقدمة من صندوق النقد الدولي، وجهات أخرى عديدة، إلى أنَّ شركات التكنولوجيا الكبرى تخنق الإبداع من خلال استراتيجيات الاستحواذ والممارسات التنافسية. إذا اعتقد المرء، كما نعتقد نحن، أنَّ النمو الاقتصادي يعتمد على الإبداع، فلا بدَّ أن يبادر إلى دعم التحرُّك العاجل في التصدي لهذه المشكلة.

إلى جانب المقترحات التشريعية العديدة بشأن تفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى، هناك بعض الخطوات البسيطة التي يمكن أن يتخذها على الفور رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصة الأميركية المعتمد حديثا، جاري جينسلر، لضمان المساءلة الشركاتية بين شركات التكنولوجيا، وتشجيع الالتزامات المستمرة بالإبداع لمنفعة أميركا المشتركة.

أولًا، تستطيع لجنة الأوراق المالية والبورصة، بل ينبغي لها، أن تطالب جميع الشركات المتداولة علنًا في الولايات المتحدة بالإفصاح بوضوح عن مقدار ما تنفقه على البحث والتطوير. بموجب معايير المحاسبة التي ترجع إلى عدة عقود مضت، لا تشمل هذه الفئة سوى الأنشطة التي تستهدف تحديدًا تطوير منتجات جديدة، أو خدمات، أو عمليات، أو إدخال تحسينات كبرى على المنتجات أو الخدمات أو العمليات القائمة. ويُـحـظَـر صراحة اعتبار "التعديلات الروتينية أو الدورية" الصغيرة التراكمية من مشاريع البحث والتطوير.

مع ذلك، نجد أنَّ العديد من شركات وادي السيليكون العملاقة اليوم قامت بتجميع مثل هذه التعديلات الطفيفة معًا تحت بنود نفقات البحث والتطوير، على نحو يضرُّ بالبلاد اجتماعيًّا واقتصاديًّا. ولأنَّ أكبر شركات التكنولوجيا تستحوذ على حصة كبيرة ومتنامية من الكعكة الاقتصادية، فإنَّ الشفافية بشأن مقدار ما تستثمره في الإبداع الحقيقي ممارسة مبررة تمامًا.

ثانيًا، يجب عل لجنة الأوراق المالية والبورصة أن تعمل على تنفيذ التحول الذي طال انتظاره عودة إلى التقارير نصف السنوية. تشير الأبحاث إلى تكاليف عالية مرتبطة بتقارير الإفصاح ربع السنوية التي تتعهد بها كل شركة عامة حاليًّا. لقد عمل تشكيل سوق رأس المال حيث يتعين على فِـرَق الإدارة أن تصدر على نحو مستمر إرشادات الربحية على تعزيز عقلية قصيرة الأجل تنطوي على عواقب اقتصادية سلبية بعيدة المدى.

تسبب هذا النهج الفكري القصير النظر في إعاقة قدرة المديرين على تنفيذ استثمارات كبيرة طويلة الأجل، وعمل على تقصير فترة عمل الرؤساء التنفيذيين، وأدَّى إلى تضاؤل قدرة المديرين على اتخاذ القرارات التي قد تكون حاسمة فيما يتصل بقدرة الولايات المتحدة التنافسية في الاقتصاد العالمي. على نحو مماثل، لا شكَّ أنَّ إثقال كاهل الشركات الصغيرة المتداولة في البورصة- التي تشكل الأساس الذي ينبني عليه الاقتصاد- بتكاليف تقديم التقارير المتكررة والكبيرة يعيق الاستثمار الموجه نحو النمو عن طريق تبديد الموارد.

إلى جانب هذه الإصلاحات اللازمة لتشجيع التغيير عند القمة، خلقت الجائحة فرصة لتنشيط الإبداع على مستوى القاعدة الشعبية. في هذا الخريف، عاد ملايين الطلاب الأميركيين إلى الفصول المدرسية، بعضهم لأول مرة منذ أكثر من عام. ولأنَّ حكومات الولايات تعتمد على التمويل الفيدرالي لمواصلة تعليم الشباب، فإننا الآن أمام فرصة لا تسنح إلا مرة واحدة كل جيل لإحداث تغيير جوهري في عملية تسليم التعليم على المستوى المحلي.

يشترك أهل الاقتصاد، والمفكرون، ورجال الأعمال، والساسة في عدم الرضا بشكل عام عن الأداء التعليمي في أميركا مقارنة بأقرانها. على وجه الخصوص، فشلت المدارس في الولايات المتحدة بوضوح في رعاية الإبداع، وخوض المجازفة، والبحث عن التحديات بين الشباب اليوم. لقد لعبت هذه القيم دورًا أساسيًّا في التنمية الوطنية في الولايات المتحدة ويجب أن تُـغـرَس في الطلاب عند عودتهم إلى الفصول المدرسية.

جلبت الأشهر الثمانية عشر الأخيرة ارتباكات عديدة لكنها أتاحت أيضًا فرصة التغيير الإيجابي. يتعيَّن على النظام الرأسمالي في أميركا أن يتكيَّف مع العالم الجديد. وهذا يعني بادئ ذي بدء إعادة تركيز الحوار الاقتصادي حول أصحاب المصلحة ومستقبلنا المشترك. يجب أن تتزامن العودة إلى المدارس والجامعات مع العودة إلى التعليم الذي يحتفي بالقيم الأميركية الجوهرية والأساسية التي ساعدت البلاد على تحقيق مثل هذا النجاح غير المسبوق.

بينما نتطلع إلى المستقبل بعد الجائحة، يتعيَّن علينا أن نرِّكز على تعزيز قوة مؤسَّساتنا وإعادة تنشيط ثقافتنا. لتحقيق هذه الغاية، يشكل دعم الأساس الفكري للجيل القادم وتزويد الشركات بالمرونة اللازمة لتمكينها من الإبداع مجرد خطوتين يمكننا اتخاذهما اليوم. ومن الممكن أن يتبع هذا خطوات أخرى كثيرة. على الرغم من أنَّ التحديات الاجتماعية والمالية والسياسية التي تواجه أميركا لا تزال قاسية كحالها في أي وقت مضى، فإننا قادرون على الكفاح من أجل إعادة إحياء القيم والمؤسَّسات التي نحتاج إليها.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

إدموند س. فيلبس حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد لعام 2006، ومدير مركز الرأسمالية والمجتمع في جامعة كولومبيا، وهو مؤلف كتاب "الرخاء الجماعي"، والمؤلف المشارك لكتاب "دينامية". محمد سلحوت طالب دراسات عليا في جامعة كولومبيا، وباحث مساعد في مركز الرأسمالية والمجتمع في جامعة كولومبيا.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org