الصين الصامدة
بقلم أندرو شنغ وسياو جنغ
هونغ كونغ- إنَّ عدم الاستقرار هو الوضع الطبيعي الجديد في جميع أنحاء العالم. إذ يواجه هذا الأخير تحديات متنوعة بقدر ما هي متقلبة، بما في ذلك الغزو الروسي لأوكرانيا، والتوترات في مضيق تايوان، وجائحة كوفيد-19، وتغيُّر المناخ. ورغم طابعها عبر الوطني إلا أنه يجب بناء القدرة على تحملها، أولاً وقبل كل شيء، داخل حدود الدول القومية.
ومن المؤكد أنَّ التعاون الفعَّال متعدد الأطراف يضطلع بدور مهم في ذلك. ولكن اشتداد الخصومات الجيوسياسية يحد من إمكاناته. وفضلًا عن ذلك، حتى لو عملت البلدان معًا، فإنَّ قدرتها على معالجة الاتجاهات والاختلالات العالمية والإقليمية المزعزعة للاستقرار، ستعتمد إلى حد كبير على التدابير التي يتخذها كل بلد لتعزيز المرونة المالية، والاقتصادية، والاجتماعية، على الصعيد الداخلي.
بيد أنَّ هناك الكثير من العوائق التي تحول دون اتخاذ إجراءات فعّالة على المستوى الوطني. إذ مع تراجع الثقة العامة في الحكومة في كثير من أنحاء العالم، فإنَّ قلة قليلة من القادة السياسيين مُنحوا التفويض السياسي أو الشرعي اللازم لاتخاذ الخيارات الصعبة التي يتطلبها الوضع. ولا يساعد انتشار انعدام الثقة بوسائل الإعلام على معالجة الأمور.
وبدلاً من معالجة أوجه القصور هذه في الثقة بصدق وبطريقة مستدامة، سعى العديد من القادة السياسيين والصحفيين، لا سيما في الغرب، إلى توحيد شعوبهم من خلال تأطير التهديدات الخارجية وإبرازها، خاصة من الصين وروسيا. وهذا تشتيت خطير يمكننا القول بأنه سيقوض الأمن في الغرب.
وإذا ظلت البلدان في حالة حرب، فإنها لن تكرس ما يكفي من الاهتمام والموارد للأولويات المحلية، مثل تحقيق هدف صافي الانبعاثات الصفري، وتعزيز الطلب، وتقديم رعاية صحية جيدة، وضمان ما يكفي من الحماية الاجتماعية، والحد من عدم المساواة الاقتصادية. وإن لم يُحرَز تقدُّم في هذه المجالات، فإنَّ الاستياء سيزداد، مما سيزيد من تقويض الاستقرار المحلي والإقليمي والعالمي.
وتدرك الصين، على سبيل المثال، أنَّ محاولة مواجهة التحديات المحلية في وقت تخوض فيه "حربًا كلامية" في وسائل الإعلام، وتدير حربًا باردة مع الولايات المتحدة هي لعبة محصلتها صفر. ومن هذا المنطلق، وضعت في عام 2020 "استراتيجيتها للتداول المزدوج"، التي ركزت على زيادة اعتماد الصين على نفسها، ومن ثمَّ، على قدرتها على تحمُّل الضغوط والاضطرابات الخارجية.
وبدأت الصين في تنفيذ هذه الاستراتيجية، مع حفاظها في الوقت نفسه على سياسة صارمة تمنع انتشار فيروس كورونا. وقد مكنها ذلك، في المقام الأول من الأهمية، من إبقاء إجمالي الوفيات منخفضًا. ولو كان معدل وفيات كوفيد-19 في الصين مطابقًا لنظيره في الولايات المتحدة، لكان ما يقارب أربعة ملايين صيني في عداد الموتى الآن. والأحرى، لم تسجِّل الصين سوى بضعة آلاف من حالات الوفات الناجمة عن كوفيد-19.
وإلى جانب إنقاذ أرواح الناس، مكّنت سياسة عدم انتشار فيروس كورونا المستجد في الصين البلاد من تجنُّب العبء الاقتصادي الناتج عن عمليات الإغلاق الوطنية المطَولة، ومن ثمَّ، تسهيل التعافي السريع للإنتاج والاستهلاك. وقد منح ذلك الحكومة الثقة بتنفيذ سياسات التعديل الهيكلي الهادفة إلى تحسين جودة النمو، وتعزيز هدف "الرخاء المشترك".
فعلى سبيل المثال، تصرف صانعو السياسات بصورة حاسمة لتقليل المخاطر في قطاع العقارات، وكبح جماح عمالقة منصات الإنترنت. ورغم أنَّ تكاليف هذه الإصلاحات كانت قصيرة الأجل- تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 4٪ في الربع الأخير من عام 2021- بلغ النمو على مدار العالم الكامل 8.1٪ (مقارنة بـ5.7٪ في الولايات المتحدة)، وبلغ فائض الحساب الجاري للصين 315.7 مليار دولار (1.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي).
وتراجعت نسبة الرافعة المالية الكلية للدولة (مقياس المديونية الإجمالية للاقتصاد) على مدى خمسة فترات ربع سنوية متتالية، مما يسلِّط المزيد من الضوء على التزام الصين بمعالجة الاختلالات. وفي عام 2021، انخفضت النسبة بمقدار 7.7 نقطة مئوية لتصل إلى 272.5٪. وللمقارنة، منذ شهر يونيو/حزيران 2021، بلغت نسبة الرافعة المالية الكلية 286.2٪ في الولايات المتحدة، و416.5٪ في اليابان، و284.3٪ في منطقة اليورو.
وساعد الاحتراس في المجالين المالي والنقدي على ضمان ارتفاع قيمة (الرنمينبي) بنسبة 2.7٪ فقط مقابل الدولار الأمريكي في عام 2021، مقارنة بـ6.7٪ في عام 2020. وفضلًا عن ذلك، ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 0.9٪ فقط في عام 2021، مقارنة بنسبة 7٪ في الولايات المتحدة.
وارتفعت أسعار المنتجين ارتفاعًا حادًّا في عام 2021، حيث بلغ النمو السنوي ذروته عند 13.5٪ في أكتوبر/تشرين الأول، بسبب تقلب أسواق السلع الأساسية واضطرابات سلسلة التوريد. ولكن سياسات الاستقرار الحكومية تعمل بالفعل على مواجهة هذا الاتجاه، وهو ما انعكس في التباطؤ االذي شهده لاحقًا تضخُّم أسعار المنتجين، والذي بلغ 9.1٪ في يناير/كانون الثاني.
إنها البداية فقط في الصين. إذ في سياق سعيها نحو تحقيق الرخاء المشترك، ستستمرُّ حكومة هذا البلد في استخدام مزيج من حوافز السوق والتحويلات المالية لزيادة حجم الاقتصاد بصورة مستدامة، ولضمان تخصيص المكاسب بقدر أكبر من الإنصاف. كذلك، ستحدث المساهمات الخيرية الطوعية فرقًا هنا.
وتتمثل الأولوية الثانية في تحقيق استخدام أكثر توازناً وانضباطًا لرأس المال، بمساعدة كل من الحوافز (مثل تعزيز نمو الإنتاجية) والقواعد (للحماية من ممارسات المضاربة أو الأسعار الاحتكارية). وفي إطار هذه الجهود، تشجع الصين استخدام رأس المال طويل الأجل بدلاً من الديون.
وتعمل الحكومة الصينية أيضًا على تأمين الإمدادات الكافية من الموارد الطبيعية الاستراتيجية، والطاقة، والسلع، والمواد الصناعية، والمنتجات الزراعية، لحماية نفسها من بيئة جيوسياسية معادية. وفضلًا عن ذلك، تعمل على تحسين أنظمتها للتنبؤ بالمخاطر المالية أو غير المالية الرئيسية، وإدارتها، والتخفيف من حدتها، بما في ذلك أحداث البجعة السوداء الضئيلة الاحتمال والبالغة التأثير، ومخاطر غراي رينو (وحيد القرن الرمادي) البطيئة، مثل تغيُّر المناخ وفقدان التنُّوع البيولوجي. ولا تزال الصين ملتزمة بالوصول إلى ذروة انبعاثات الكربون قبل عام 2030، وتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060.
إنها أجندة طموحة، ولكن نجاحها ليس مضمونًا. إذ يُظهر سجل الصين الحافل أنه أثناء وضع سياسات جريئة وتنفيذها، لا مفرَّ من ارتكاب الأخطاء. ولكن الصين لديها أيضًا تاريخ طويل في التعلُّم من أخطائها والتكيُّف مع الظروف المتغيرة. وعلى أي حال، في وقت يسوده عدم اليقين العميق والعداء المفتوح، ليس أمام الصين خيار سوى الاستعداد للأسوأ. ولحسن الحظ بالنسبة لبقية العالم، مهما كان التقدُّم الذي تحرزه الصين في معالجة الاختلالات الداخلية، فلن يؤدي إلا إلى تعزيز الاستقرار العالمي.
ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch
أندرو شنغ هو زميل متميز في معهد آسيا العالمي بجامعة هونغ كونغ، وهو عضو في المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة بشأن التمويل المستدام. شياو جانغ، رئيس معهد هونغ كونغ للتمويل الدولي، هو أستاذ ومدير معهد السياسة والممارسة في معهد شنجن المالي في الجامعة الصينية بهونغ كونغ، شنجن.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org