خطورة اتباع الفيدرالي الأميركي
أوتمار آيسنج
فرانكفورت ــ إذا قلنا إنَّ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي هو أهمُّ البنوك المركزية في العالم، فإنما يعبر ذلك عن حقيقة واضحة، إذ توثِّر قراراته المتعلقة بالسياسة النقدية على أسعار الفائدة المتداولة في أسواق العالم، ولا يقدر أي بنك مركزي على تجاهلها دون المخاطرة بحدوث تحركات غير مرغوبة في أسعار صرف عملته.
كما أنَّ زعامة الفيدرالي الأميركي، شئنا أم أبينا، تمتد لما هو أبعد من حدود السياسة النقدية الحالية. لا أنكر أنَّ هذا المجلس لم يكن سباقاً على مستوى العالم في وضع استراتيجية للسياسة النقدية ــ تذكروا كم استغرق من الوقت لإقرار المعدل المستهدف من التضخم رسمياً ــ أو في جعل قراراته أو رسائله أكثر شفافية. لكن لا يخدعنكم ذلك: فهذا الفيدرالي الأميركي يلعب أيضاً دوراً قيادياً في النقاشات العالمية بشأن القضايا الاستراتيجية الخاصة بنظم عمل البنوك المركزية.
لا غرو إذاً في أن يترقب مسؤولو البنوك المركزية بشغف نتيجة المراجعة التي قام بها الفيدرالي الأميركي أخيراً لاستراتيجية السياسة النقدية وأدواتها وسبل إيصالها. لكن الاستراتيجية الجديدة للمجلس، والمعلنة في أواخر أغسطس/آب الماضي، لا ينبغي اعتبارها مقياساً عالمياً لمسلك السياسة النقدية على الأرجح.
يجدر بالبنوك المركزية الأخرى التفكير ملياً قبل السير وراء مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لأسباب متنوعة فنية وسياسية. يتعلق السبب الأول بتحول المجلس إلى استهداف متوسطٍ للتضخم، "يسعى بموجبه الآن لتحقيق تضخم يبلغ 2% في المتوسط بمرور الوقت". ومن الصعب أن نرى كيف يمكن لمثل هذا النظام تثبيت توقعات التضخم، في الوقت الذي لم يوضح الفيدرالي الأميركي مدة الفترة الماضية التي يمكن على أساسها قياس درجة التقصير عن إدراك هدف الاثنين في المئة، أو الإجراء اللازم لتقرير مدة التضخم الأعلى في المستقبل وكيفية توزيعه.
السبب الثاني تصريح جيروم باول، رئيس الفيدرالي الأميركي، بأنَّ واضعي السياسات سيمتنعون عن تحديد هدف رقمي للحد الأقصى للتوظيف ــ وهو أحد الأهداف المفوضة من قِبَل الكونجرس للمجلس ــ بحجة أنه أمر لا يمكن قياسه ويتغير بمرور الوقت. لكن إذا كان الحد الأقصى للتوظيف غير قابل للقياس، فلا يمكن إذاً تحديد قيمة رقمية لقصور التوظيف عن مستوى معين، بينما ستكون نسبة القصور عاملاً رئيساً في القرارات المستقبلية المتعلقة بالسياسة النقدية.
في هذا السياق نجد أنَّ تراجع سعر الفائدة الرئيس على الأموال الفيدرالية مرتبط بالهبوط في سعر الفائدة الحقيقي الطبيعي ــ وهو سعر غير قابل للملاحظة والرصد وبسببه تكون النتائج العملية مصحوبة بدرجة عالية من الغموض. فضلاً عن ذلك، يظل هناك سؤال مفتوح بشأن ما إذا كانت السياسة النقدية التوسعية ذاتها قد تسبَّبت في هبوط سعر الفائدة الحقيقي الطبيعي. في تلك الحالة، ستكون الحجة لخفض سعر فائدة البنك المركزي بمثابة دوران في حلقة مفرغة.
ثالثاً، اضطلاع الفيدرالي الأميركي الآن بالمسؤولية الواضحة عن توزيع الدخل في الولايات المتحدة الأميركية. فقد أكد باول في خطابه بمنتدى جاكسون هول أخيراً أنه في ظل تواصل التوسُّع الاقتصادي طويل الأمد الذي شهدته أميركا قبل الوباء (ويمكنني هنا إضافة استمرار السياسية التوسعية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي أيضاً)، "بدأ نطاق تقاسم المكاسب في الاتساع ليشمل شرائح أعرض من المجتمع، حيث هبطت معدلات البطالة بين السود وذوي الأصول الإسبانية إلى مستويات دنيا قياسية، وتقلصت الفوارق بين تلك المعدلات ومعدلات البطالة بين البيض إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق".
لكن تدخل باول في الجدال حول عدم المساواة سيأتي في النهاية بنتائج عكسية. فما أن يبدأ الفيدرالي الأميركي في تضييق وتشديد سياسته النقدية، سيتعرض لضغط سياسي رهيب حتى لا يضر الفئات الأفقر من المجتمع.
أخيراً، تخلو الاستراتيجية الجديدة للمجلس من أية إجابات عن تحدي بناء نموذج لاستهداف التضخم يدمج مخاطر النظام المالي بكل قواها المحركة المتغيرة باستمرار، وعدم استقامتها، وتعقيدها، إذ لا يوجد مثل هذا النموذج حالياً. ومع أنني غير مهووس بنهج البنك المركزي الأوروبي القائم على ركنين (منظورين) في تحليل المخاطر المحيطة باستقرار الأسعار بأسلوب شامل، فإنه يمثل على الأقل محاولة لمعالجة المشكلة. وبهذا يواصل الفيدرالي الأميركي تجاهله الخطير لعنصري المال والائتمان، ومن الغريب أنه لم يدرج هاتين الكلمتين من الأساس في بيان استراتيجيته المحدثة، وإن لم يكن ذلك مفاجئاً.
على أقل تقدير، ينبغي للبنوك المركزية الأخرى أن تمتنع عن اتباع الاستراتيجية الجديدة للفيدرالي الأميركي دون نظر أو تدقيق. لكن أكبر مخاوفي تتعلق بالأهمية الكبرى التي يوليها الفيدرالي الأميركي لمسألة توزيع الدخل. لتوضيح هذا الأمر أقول إنَّ التفاوت الاقتصادي ــ ومعه التهديدات المحدقة بالبيئة ــ يمثل قضية سياسية عالمية كبرى، وقرارات السياسة النقدية في جوهرها تخلف تأثيرات توزيعية. لكن الاعتراف بتلك الحقيقة ــ وتطبيق سياسة نقدية تنأى عن الإجراءات التي تؤثر مباشرة في مسألة التوزيع ــ أمر مختلف للغاية عن جعل العدالة التوزيعية هدفاً للسياسة النقدية.
لذا تثير الاستراتيجية الجديدة للاحتياطي الفيدرالي تساؤلات عدة، منها: هل تستطيع السياسة النقدية تحقيق أهداف توزيعية؟ وهل يمكن أن تصطدم تلك الأهداف مع تفويض استقرار الأسعار؟ وكيف ينبغي حل الخلافات والتضاربات بين هدف يتبناه المجلس ذاتياً وتفويض قانوني؟ وهل يحق لأي بنك مركزي أن يتولى المسؤولية عن سياسة توزيعية في بلد ديمقراطي؟
إنَّ مسؤولي البنوك المركزي ليسوا خارقي القوى، ولا ينبغي أن يتحدثوا أو يتصرفوا وكأنهم هكذا. يجب أن تبقى قرارات التوزيع في أيدي الحكومات والمجالس التشريعية المسؤولة مباشرة أمام الناخبين. كما أنَّ جنوح واضعي السياسات النقدية للعب دور سياسي متزايد سيؤدي إلى المزيد من تقويض، بل وتدمير في نهاية الأمر، حجج الدفاع عن استقلالية البنوك المركزية. ويبقى أن نرى ماذا تستطيع البنوك المركزية أن تفعل، وما ستحققه بالفعل، عندما تصبح مُعرضة للسياسة بكل أوجهها.
لقد وضع الفيدرالي الأميركي البنوك المركزية الأخرى تحت ضغط سياسي ومعنوي ضخم كي تحذو حذوه، عندما اضطلع بمسؤولية معالجة التفاوت الاقتصادي. لكن من الحكمة مقاومة تلك الضغوط.
ترجمة: أيمن أحمد السملاوي Translated by: Ayman A. Al-Semellawi
أوتمار آيسنج كبير خبراء الاقتصاد وعضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي سابقاً، ورئيس مركز الدراسات المالية في جامعة جوته في فرانكفورت حالياً.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org