عملية إعادة التوزيع الكبرى
أكوستين كارستنز
بازل ـ في الأشهر الأولى من أزمة وباء كوفيد 19 - المرحلة الحادة - كان التأثير الاقتصادي الرئيس هو أزمة السيولة، والتي واجهتها الحكومات من خلال تقديم حوافز نقدية ومالية ضخمة. ولكن الآن، مع استمرار انتشار الوباء، تنتقل الأزمة إلى مرحلة جديدة تتميز بمخاطر أعلى بكثير فيما يتعلق بالقدرة على سداد الديون بالنسبة للشركات. يواجه صُنّاع السياسات مُعضلة حاسمة: كيف يمكنهم دعم الشركات المحتاجة دون دعم الشركات غير القابلة للاستمرار؟
من المؤكد أنَّ تدابير الطوارئ الأولية قد حقَّقت كلَّ ما يمكن توقعه، أو أكثر. فقد ظلَّت معظم الشركات قادرة على سداد ديونها إلى حدٍّ كبيرٍ، كما تمت حماية الوظائف والأجور، مع انخفاض حالات إفلاس الشركات في النصف الأول من عام 2020 مقارنة بالسنوات الخمس السابقة.
في الوقت الحالي، تُشير مؤشرات السوق إلى أنَّ المستثمرين يتوقعون استمرار حالات التخلف عن السداد والإفلاس عند مستويات مُنخفضة. لكن هذا قد يكون تفكيراً متفائلاً: تاريخياً، هناك فجوة بين انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي وزيادة حالات الإفلاس والبطالة، والتي عادة ما تبلغ ذروتها بعد عام من الأزمة الأولية وتظل مرتفعة لمدة عامين آخرين.
بدون دعم سياسي إضافي، قد يكون العالم في طريقه نحو سيناريو مُماثل. وفقاً لتقدير بنك التسويات الدولية، قد ترتفع حالات إفلاس الشركات في الاقتصادات المتقدمة بأكثر من 20٪ في العام المقبل (مقارنة بعام 2019).
إنَّ الرسالة واضحة للغاية: يجب على صُنّاع السياسات تقديم دعم مُستمر للشركات من أجل تجنُّب موجة عمليات الإغلاق المُكلفة ومنع حالات الإفلاس. ولكن ما هو نوع الدعم المطلوب تحديداً؟
للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي على صُنّاع السياسات أولاً إدراك أنَّ البيئة الاقتصادية قد تغيَّرت بشكل جذري. من المعروف أنَّ اعتماد التقنيات الرقمية، مثل التجارة الإلكترونية، قد تسارع بشكل ملحوظ خلال الوباء. ومن غير المرجح أن يتمَّ عكس هذا الاتجاه.
في الواقع، قد لا تعود مواقف المستهلكين وسلوك إنفاقهم بشكل كامل إلى الأنماط التي كانت عليها قبل انتشار الوباء. من المرجح أن يعمل المزيد من الأشخاص من منازلهم، على الرغم من أنَّ تدابير التباعد الاجتماعي قد أصبحت شيئاً من الماضي. ويمكن للناس أيضاً السفر والتسوق وتناول الوجبات الخفيفة في الشوارع بشكل أقل في المستقبل.
على الرغم من أنَّ مثل هذه التحوُّلات في النشاط الاقتصادي قد تعزِّز بعض القطاعات، فإنها ستعمل أيضاً على تدمير الشركات التي كانت مزدهرة في السابق. وإذا قام صُنّاع السياسة بدعم مثل هذه الشركات، فيمكنها زيادة الضغط على القطاع المالي قد تؤدي في النهاية إلى انكماش اقتصادي أكبر وفقدان المزيد من الوظائف.
سيكون من الصعب تحديد ما إذا كانت الشركة تستحق دعماً اقتصادياً إضافياً أم لا. لن تقدم المؤشرات الاقتصادية ما قبل الأزمة وحدها إرشادات دقيقة. ولا تزال التوقعات الاقتصادية غير مؤكدة إلى حد كبير.
على الرغم من عدم وجود طريقة مثالية لتحديد الشركات القابلة للاستمرار على المدى الطويل، فإنه يمكن للبنوك - التي لديها كثير من الخبرة في إجراء مثل هذه التقييمات لتوجيه الإقراض - أن تُوفر معلومات قيمة. إضافة إلى ذلك، ستضطر البنوك نفسها، في بعض الحالات، إلى التوقف عن إقراض الشركات غير المربحة، حتى لو أدى ذلك إلى بعض الخسائر.
وبغض النظر عن إعادة تخصيص الموارد، فمن الواضح أنَّ صُنّاع السياسات خلال هذه المرحلة المطولة من الأزمة لم يعد بوسعهم الاعتماد على الحوافز المالية والنقدية فحسب. هناك حاجة أيضاً إلى الإصلاح الهيكلي والدعم الهادف.
إنَّ التحدي الذي نُواجه يتألف من شقين. أولاً، تحتاج الشركات التي يمكنها الازدهار في هذا الاقتصاد الجديد إلى المساعدة على إعادة هيكلة الديون وإصلاح ميزانياتها العمومية، ولكن أيضاً في تطوير استراتيجيات فعالة. وتحقيقاً لهذه الغاية، يمكن تقليص الإجراءات المالية واسعة النطاق لصالح الدعم المالي للشركات التي تراكمت لديها ديون كبيرة لا يمكن تحملها، ولكن من المرجح أن تظل قابلة للاستمرار على المدى الطويل.
ثانياً، يجب على صُنّاع السياسات تشجيع وتمكين الشركات في القطاعات الأكثر تضرراً من إعادة توزيع مواردها على تلك القطاعات التي من المرجح أن تزدهر في البيئة الاقتصادية ما بعد الوباء. مثلما عملت الحكومات على مر السنين على تسهيل بدء الأعمال التجارية، يجب عليها اليوم تبسيط عملية تصفية المؤسَّسات الفاشلة. كلما تمَّ تحرير الموارد بشكل أسرع، أمكن توجيهها نحو أنشطة تعزيز النمو.
قد يُساعد تبسيط إجراءات الإفلاس وأنظمة العمل في هذه المرحلة. تُعدُّ الحوافز لإعادة الهيكلة على مستوى الشركات ضرورية أيضاً. أما بالنسبة إلى العمال المتضررين، يمكن لصُنّاع السياسات توفير الحوافز والفرص لهم لاكتساب المهارات التي يحتاجون إليها للتحوُّل إلى قطاعات أكثر ديناميكية.
من أجل توجيه الموارد المعاد تخصيصها - بما في ذلك رأس المال البشري - نحو القطاعات التي ستحقق فوائد حقيقية للاقتصاد الوطني على المدى الطويل، يجب على صُنّاع السياسات النظر في صياغة استراتيجيات صناعية استشرافية (حيث لا توجد بالفعل) تعزز الاستثمار في البنية التحتية والصناعات الصديقة للمناخ والرعاية الصحية. في الوقت نفسه، يتطلب جني فوائد الابتكار التكنولوجي بيئة تنظيمية وقانونية مواتية، بما في ذلك حقوق الملكية المناسبة، ونظام مالي يوفر التمويل اللازم لرأس المال.
ستتطلب عملية إعادة التخصيص غير المسبوقة هذه اتخاذ إجراءات متضافرة من قبل جميع أصحاب المصلحة، من القطاعين العام والخاص، بما في ذلك المدينون والدائنون والبنوك المركزية والسلطات المالية والعديد من الهيئات الحكومية الأخرى، مثل السلطات الضريبية والمحاكم وإدارات الضمان الاجتماعي وإدارات العمل والحكومات دون الوطنية. سيكون التنسيق الدولي حاسماً أيضاً. لذلك ينبغي أن تقاوم الحكومات نداءات الحمائية.
سوف يعود الاقتصاد إلى النمو في نهاية المطاف. لكن محركات النمو لن تكون كما كانت قبل الوباء. وكلما أسرع صُنّاع السياسة في إدراك ذلك مع وضع استراتيجيات دعم اقتصادي هادفة - والتي يجب أن تتضمن قدراً كبيراً من الإصلاحات الهيكلية - كلما كان التعافي أسرع وأقوى وأكثر مرونة.
أكوستن كارستنز هو محافظ سابق لبنك المكسيك، والمدير العام لبنك التسويات الدولية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org