تحدي الإنفاق على البنية الأساسية

كينيث روجوف

كمبريدج ــ يبدو أنَّ الأخبارَ المشجعة حول علاجات مضادة للفيروسات أكثر فاعليَّة، وظهور لقاحات واعدة تغذي حالة من التفاؤل الحذر بأنَّ الدول الغنية، على الأقل، يمكنها ترويض جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) بحلول نهاية عام 2021. ولكن في الوقت الحالي، مع اندفاع موجة ثانية وحشية في مختلف أنحاء العالم، تظلُّ أعمال الإغاثة والتخفيف القوية الواسعة النطاق تشكِّل ضرورة أساسية. ينبغي للحكومات أن تسمحَ بالمزيد من ارتفاع الدين العام للتخفيف من حجم الكارثة، حتى لو كان ذلك ينطوي على تكاليفَ أبعدَ أمداً. ولكن من أين قد يأتي النمو الجديد، الذي كان فاتراً بالفعل في الاقتصادات المتقدمة قبل الجائحة؟

يتفق علماء الاقتصاد الكلي بكافة اتجاهاتهم على نطاق واسع على أنَّ الإنفاق على البنية الأساسية الإنتاجية أمر مرغوب بعد الركود العميق. كنت لفترة طويلة مشاركاً لهم في هذا الرأي، على الأقل فيما يتصل بالمشاريع الإنتاجية الحقيقية. مع ذلك، كان الإنفاق على البنية الأساسية في الاقتصادات المتقدمة في تراجع بشكل متقطع لعقود من الزمن. (تُـعَـدُّ الصين، التي تمرُّ بمرحلة مختلفة تماماً من التنمية، قصة أخرى مختلفة تماماً بطبيعة الحال). على سبيل المثال، أنفقت الولايات المتحدة 2.3% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي (441 مليار دولار أميركي) على البنية الأساسية للنقل والمياه في عام 2017، وهي نسبة أقل من أيِّ وقتٍ مضى منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين.

ربما يكون هذا العزوف عن احتضان الاستثمار في البنية الأساسية على وشك أن يتلاشى. فقد تَـعَـهَّـد رئيس الولايات المتحدة المنتخب جو بايدن بجعل الاستثمار في البنية الأساسية أولوية، مع التأكيد بقوة على الاستدامة ومكافحة تغير المناخ. الواقع أنَّ حزمة التحفيز المقترحة في الاتحاد الأوروبي بقيمة 1.8 تريليون يورو (2.2 تريليون دولار أميركي) ــ التي تشمل الميزانية الجديدة لسبع سنوات والتي تبلغ 1.15 تريليون يورو وصندوق التعافي المسمّى جيل الاتحاد الأوروبي التالي بقيمة 750 مليار يورو ــ تشكِّل البنية الأساسية أحد مكوناتها الرئيسة، وسوف تستفيد منها بشكل خاص البلدان الأعضاء الأضعف اقتصاداً في الجنوب. كما أطلق وزير خزانة المملكة المتحدة ريشي سوناك مبادرة طموحة للبنية الأساسية بقيمة 100 مليار جنيه إسترليني (133 مليار دولار أميركي)، بما في ذلك إنشاء بنك وطني جديد للبنية الأساسية.

نظراً للبنية الأساسية المتدهورة في العديد من البلدان، وتكاليف الإقراض المنخفضة إلى مستويات غير مسبوقة، يبدو كلُّ هذا واعدا للغاية. ولكن بعد الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008، رأى خبراء الاقتصاد الكلي على مستوى العالم أنَّ الحجة لصالح الإنفاق على البنية الأساسية مُـقنِـعة بشكل خاص أيضاً، ومن ثَـمَّ فإنَّ التجربة تنصح بتوخي الحذر بشأن التعهد بدَفعة كبيرة للنمو الطويل الأجل هذه المرة. كان خبراء الاقتصاد الجزئي، الذين ينظرون إلى تكاليف البنية الأساسية وفوائدها على أساس مشروع واحد على حِـدة في كل مرة، أكثر روية وحذراً منذ أمد بعيد.

بادئ ذي بدء، كما أشار رجل الاقتصاد ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابق الراحل إدوارد جرامليش قبل ربع قرن من الزمن، فإنَّ أغلب البلدان المتقدمة شيَّدت بالفعل مشاريع البنية الأساسية ذات العائد المرتفع، من الطرق عبر الولايات والجسور إلى شبكات الصرف الصحي. ورغم أنني لا أجد هذه الحجة مقنعة بشكل كامل ــ فهناك على ما يبدو إمكانات هائلة غير محققة لتحسين شبكة الكهرباء، وتوفير الوصول الشامل إلى شبكة الإنترنت، وإزالة الكربون من الاقتصاد، وإدخال التعليم إلى القرن الحادي والعشرين ــ فلا ينبغي لخبراء الاقتصاد الكلي أن يسارعوا إلى رفضها.

تنطوي حجة جرامليش على أوجه تشابه قوية مع أطروحة روبرت جيه. جوردون التي تزعم أنَّ انفجار الأفكار الجديدة المنتجة التي عملت على توليد نمو هائل في القرنين التاسع عشر والعشرين بدأ ينحسر ويفقد زخمه منذ سبعينيات القرن العشرين. يعتقد بعض خبراء الاقتصاد الكلي، بما في ذلك خبير الموارد المالية العامة فاليري رامي، أنه من غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان مستوى رأس المال العام في الولايات المتحدة أدنى من الأمثل.

صحيح أنَّ الجمعية الأميركية للمهندسين المدنيين منحت البنية الأساسية في الولايات المتحدة درجة D+ في الإجمال لعام 2017، ولكن بقدر ما يعكس هذا التقييم السلبي الواقع، فإنه راجع في الأرجح إلى نقص الاستثمار في الصيانة والإصلاح ــ وخاصة فيما يتعلق بالجسور ــ وليس التقاعس عن بناء، على سبيل المثال، خط سكة حديدية عالي السرعة بين لوس أنجيلوس وسان فرانسيسكو. الواقع أنَّ المتخصصين في الموارد المالية العامة يتفقون إلى حد كبير على أنَّ أعمال الصيانة والإصلاح في الاقتصادات المتقدمة توفِّر أعلى عائد من الاستثمار في البنية الأساسية. (هذا بعيد تماماً عن الحال في اقتصادات الأسواق الناشئة، حيث تكرس الطبقة المتوسطة المزدهرة حصة كبيرة من دخلها لبند المواصلات.

وحتى بعيداً عن الجدوى التكنولوجية والاستحسان، ربما تكون العقبة الأكبر التي تحول دول تحسين البنية الأساسية في الاقتصادات المتقدمة هي أنَّ أيَّ مشروع جديدة يتطلب عادة التعامل مع قضايا صعبة تتعلق بحق الطريق، ومخاوف بيئية، واعتراضات من جانب مواطنين منزعجين يمثلون مجموعة متنوعة من المصالح.

اشتهر مشروع الطريق السريع "Big Dig" في مسقط رأسي في بوسطن بولاية ماساتشوستس بأنه أحد أكثر مشاريع البنية الأساسية تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة. كان من المتوقع في الأصل أن تبلغ تكلفة المخطط 2.6 مليار دولار، لكن الفاتورة النهائية تضخمت إلى أكثر من 15 مليار دولار، وفقاً لبعض التقديرات، على مدار 16 عاماً من أعمال البناء. لم يكن هذا نتيجة للفساد بقدر ما كان راجعاً إلى الاستخفاف بقدرة المساومة التي تتمتع بها مجموعات المصالح العديدة. فقد طلبت الشرطة مدفوعات ضخمة للأجر الإضافي، وطالبت الأحياء المتضررة بعزل الصوت ومدفوعات جانبية، في حين أفضت الضغوط لخلق فرص العمل إلى زيادة في عدد الموظفين عن الحاجة.

كان بناء نفق المترو Second Avenue في مدينة نيويورك تجربة مماثلة، وإن كان على نطاق أصغر قليلاً. وفي ألمانيا، افتُـتِـح مؤخرا مطار برلين براندنبورج الجديد متأخراً بنحو تسع سنوات عن الجدول الزمني وبتكلفة تجاوزت ثلاثة أمثال تكلفته المقدرة أولياً.

ربما تكون كل هذه المشاريع ذات قيمة جيدة رغم كل شيء، لكن نمط تجاوز التكلفة الذي تسلط عليه الضوء يجب أن يلطف من حدة الرأي القائل بأنَّ أيَّ مشروع في البنية الأساسية يجب أن يكون فائزاً في عصر يتسم بأسعار الفائدة الشديدة الانخفاض. علاوة على ذلك، قد يؤدي الاستثمار غير المدروس في البنية الأساسية إلى خلق تكاليف أطول أجلًا، من الأضرار البيئية إلى متطلبات الصيانة المفرطة.

لا تزال الحجة لصالح زيادة الإنفاق على البنية الأساسية في بيئة اليوم التي تتسم بانخفاض أسعار الفائدة مقنعة، لكن لن يخلو الأمر من احتياج إلى قدر كبير من الخبرة التكنوقراطية للمساعدة على المقارنة بين المشاريع والخروج بتقييمات واقعية للتكلفة. ربما يكون إنشاء بنك وطني للبنية الأساسية على طريقة المملكة المتحدة (وهي فكرة اقترحها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما) أحد الأساليب المعقولة. في غياب ذلك، من المرجح أن يتحول الاندفاع الأخير في التحمس لمشاريع البنية الأساسية إلى فرصة مهدرة.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

كينيث روجوف كبير خبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي سابقاً، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org