تحدي الديون السيادية القديم الجديد
خوسيه أنطونيو أوكامبو
نيويورك ــ بات من الواضح أنَّ جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) ستخلف عواقب معقدة، ومنها ارتفاع مستويات ديون القطاع العام في أغلب البلدان. ويعكس هذا زيادة الإنفاق من جانب الحكومات في التصدي لهذه الأزمة، فضلاً عن انهيار الإيرادات الضريبية مع انهيار الاقتصادات في عام 2020. نتيجة لهذا، أصبحت عدة بلدان منخفضة ومتوسطة الدخل عُـرضة لخطر الوقوع تحت وطأة أزمة ديون سيادية.
على الرغم من أنَّ العديد من البلدان المتقدمة مثقلة بالديون، فإنَّ أسعار الفائدة المستحقة على ديونها منخفضة إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيًّا ــ وسلبية بالقيمة الحقيقية. أما البلدان النامية، التي زادت إنفاقها العام بشكل أقل حِـدّة أثناء أزمة كوفيد-19، فيتعين عليها رغم ذلك أن تدفع أسعار فائدة أعلى على ديونها السيادية. وقد ترتفع أسعار الفائدة هذه، فضلًا عن فوارق علاوات المخاطر التي يتعين على البلدان الأكثر فقًرا أن تدفعها في أسواق رأس المال الدولية، مع بدء أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة ــ والولايات المتحدة بشكل خاص ــ في الارتفاع.
قبل مدة قصيرة من اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي السنوية في أكتوبر/تشرين الأول 2020، دعت المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا إلى إجراء إصلاحات عاجلة لبنية الديون الدولية. لكن التحرُّك الفعلي كان محدودًا للغاية.
صحيح أنَّ مجموعة العشرين أطلقت مبادرة تعليق خدمة الديون لصالح البلدان المنخفضة الدخل مع بداية الجائحة، ثمَّ وسعت نطاق المبادرة وأضافت إليها تدابير تكميلية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بالاستعانة بآلية تسمح لهذه البلدان بإعادة التفاوض بشأن ديونها على أساس كل حالة على حِـدة. لكن مشاركة القطاع الخاص في هذه المبادرة كانت محدودة، ولم يُـقَـدَّمَ أي شيء مماثل للبلدان المتوسطة الدخل (وإن كانت بعض البلدان ــ وخاصة الأرجنتين والإكوادور ــ تمكَّنت من إعادة التفاوض على ديونها استنادًا إلى الأطر القائمة).
يوضح تقرير حديث صادر عن مكتب مؤسَّسة فريدريش إيبرت ومعهد بناء الإجماع بعنوان "الاستجابة لمخاطر الديون الناجمة عن جائحة كوفيد-19"، التحديات التي تواجه البلدان النامية. تولَّت صياغة هذا التقرير لجنة تضمُّ مجموعة من كبار المسؤولين الحكوميين السابقين (وأنا منهم) ومحامين خصوصيين وأكاديميين، قاموا بدراسة إعادة هيكلة الديون السيادية، وهو يحتوي على العديد من الرسائل الأساسية.
لا تحتاج كل البلدان النامية إلى إعادة هيكلة ديونها. الواقع أنَّ إحدى السمات البارزة للأزمة الحالية كانت تتمثَّل في حقيقة مفادها أنَّ تدفقات رأس المال الخاصة إلى هذه الاقتصادات عادت بسرعة ــ في غضون شهرين تقريبًا ــ بعد "توقُّف مفاجئ" أولي حاد للتمويل في الربيع الشمالي في عام 2020. لكن هومي خاراس من مؤسسة بروكنجز، وهو عضو اللجنة، يحذر من ارتفاع المخاطر. فقد وجد أنَّ 90% من 120 دولة نامية قام بتحليلها إما مُـضارِبة أو مدينة ذات مخاطر عالية. وهي تمثَّل مجتمعة أكثر من نصف كل خدمات الديون المستحقة خلال الفترة من 2021 إلى 2022.
لذا، يتعيَّن على صنّاع السياسات الدوليين ملاحقة هدفين، ينبغي لكل منهما أن يعزز الآخر، كما يؤكد التقرير. وينبغي لهم أن يعملوا على تعزيز المشاركة الكاملة، والعادلة، والشفافة من جانب الدائنين من القطاع الخاص في إعادة تصنيف الديون وإعادة هيكلتها إذا اقتضت الضرورة. كما يتعين عليهم تقديم دعم مالي إضافي يمكن البلدان النامية من الحفاظ على استثماراتها في التنمية المستدامة.
يتطلب تحقيق أول هذه الأهداف شفافية الديون السيادية العامة والخاصة لكل من الدائنين والمدينين. في الأمد القريب، يتضمَّن هذا مشاركة معلومات مفصلة عن الديون السيادية (ومن الواضح أنَّ هذا يجب أن يشمل فقرات تقضي بالحفاظ على سرية المعلومات الحساسة تجاريًّا). ويجب أن يشمل هذا تفاصيل الالتزامات المضمونة وديون الشركات المملوكة للدولة والحكومات دون الوطنية المدعومة من حكومات وطنية.
أما الحل في الأمد البعيد فيتمثَّل في إنشاء سجل للديون السيادية حيث يمكن تبادل المعلومات التفصيلية بين المدينين السياديين ودائنيهم، مع إتاحة المعلومات المجمعة لعامة الناس. على ذات القدر من الأهمية، يتعيَّن على الأنظمة القانونية المحلية في البلدان النامية أن تتبنَّى معايير شفافية الديون، وتحتاج البلدان الدائنة إلى قواعد أقوى تحدُّ من إمكانية إنفاذ عقود الديون في الحالات حيث تتوافر هذه المعايير.
إضافة إلى هذا، من الأهمية بمكان التمسك بمبدأ المعاملة المماثلة للدائنين في إعادة تصنيف الديون وإعادة هيكلتها. ويجب أن تلتزم جميع الأطراف المشاركة في هذه العمليات ــ باستثناء الدائنين المفضلين المعترف بهم ــ بالتمسك بهذا المبدأ، وينبغي للمؤسسات المالية الدولية أن تستخدم الوسائل المتاحة لها لضمان التزام المدينين السياديين وكل الدائنين به.
ومن الممكن أن تعرض الهيئات التنظيمية المالية في البلدان الدائنة حوافز تنظيمية محلية على المؤسَّسات المالية الوطنية (حاملي السندات بشكل خاص) للمشاركة في هذه العمليات، ويجب على وكالات التصنيف الائتماني أن تضع في الحسبان توقعات المدينين السياديين بعد إعادة الهيكلة. ويجب أن تنظر بنوك التنمية المتعددة الأطراف والدائنين الرسميين في تزويد الدائنين من القطاع الخاص بتعزيزات ائتمانية في سياق إعادة الهيكلة، عندما يخدم القيام بذلك المصلحة العامة ــ على سبيل المثال، من خلال تشجيع مشاركة الدائنين من القطاع الخاص على المشاركة في مقايضة الديون وشراء السندات الاجتماعية والسندات الخضراء.
ينبغي للسلطات القضائية التي تحكم عقود الديون السيادية أن تنظر في إدخال تدابير لمنع إساءة استخدام نظامها القانوني من قِـبَـل الدائنين الساعين إلى الحصول على استرداد تفضيلي ضد جهات سيادية بدلًا من المشاركة في عمليات إعادة الهيكلة بحسن نية استنادًا إلى مبدأ المعاملة المماثلة. من الممكن أن يساعد هذا على منع تكرار مشكلات خطيرة من النوع الذي واجهته الأرجنتين في محاكم نيويورك قبل بضع سنوات.
لتحقيق الهدف الثاني، يتعين على بنوك التنمية المتعددة الأطراف أن تعمل على توفير التمويل الإضافي لمساعدة البلدان الأدنى دخلًا على الإبقاء على الاستثمارات الرئيسة من أجل التنمية المستدامة. وهذا يعني أنَّ بنوك التنمية المتعددة الأطراف يجب أن تكون ممولة بالقدر الكافي ــ كانت هذه قضية مركزية لأهداف مجموعة العشرين في عام 2009 لكنها غابت خلال الأزمة الحالية. في المقابل، يتعيَّن على المدينين السياديين الخارجين من ضائقة الديون أن يفكروا في إصدار سندات مشروطة بالدولة (مثل الناتج المحلي الإجمالي أو سندات مرتبطة بأسعار السلع الأساسية) وتطوير أو توسيع أسواق رأس المال المحلية، بدعم من المؤسسات المالية الدولية.
أخيرًا، توصي اللجنة ببدء حوار حول كيفية إنشاء آلية مستقرة لإعادة هيكلة الديون السيادية تحت رعاية أطراف متعددة ــ إما الأمم المتحدة وإما آلية مستقلة لتسوية المنازعات تابعة لصندوق النقد الدولي. ظلت هذه القضية على الأجندة العالمية لعقدين من الزمن. وقد أُحـرِزَ بعض التقدم في تحسين فقرات العمل الجماعي في عقود الديون لتسهيل إعادة التفاوض المحتملة مع الدائنين من القطاع الخاص، لكن العالم في احتياج ماس إلى إطار مؤسسي محدد.
يجب تكميل آلية إعادة هيكلة الديون بفرض ضوابط تنظيمية وافية على تدفقات رأس المال. وتُـعَـدُّ هذه القضية محورًا لرؤية صندوق النقد الدولي المؤسسية لتدفقات رأس المال، والتي جرى تبنيها في عام 2012 وتخضع للمراجعة والتنقيح حاليًّا. على نحو مماثل، ينبغي لوكالات التصنيف الائتماني أن تضمن عدم مسايرة تقييمات المخاطر التي تصدرها للتقلبات الدورية وأن تتأكد من تعبيرها عن منظور المدينين في الأمد البعيد.
بينما يسعى العالم إلى رسم خريطة للتعافي الاقتصادي من أزمة كوفيد-19 في عام 2021، يجب أن تكون هذه القضايا المتعلقة بالديون محورية في أجندة التعاون العالمي. ويجب أن يخدم هذا التقرير كإطار للعمل الدولي.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
خوسيه أنطونيو أوكامبو وزير مالية كولومبيا الأسبق ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة سابقا، وهو أستاذ في جامعة كولومبيا ورئيس اللجنة المستقلة لإصلاح ضرائب الشركات الدولية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org