سوق العمل والندوب الدائمة بعد الجائحة

لورا تايسون، وسوزان لوند

بيركلي ــ بفضل النشر السريع للقاحات، بدأت الإصابات بعدوى مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، وعلاج المصابين في المستشفيات، والوفيات في الولايات المتحدة، تتجه نحو التناقص، كما بدأ تخفيف القيود المرتبطة بالجائحة المفروضة على النشاط الاقتصادي. ولكن حتى مع تحسُّن أسواق العمل تدريجيًّا، كان التعافي الاقتصادي بطيئًا وغير متساوٍ، ولا يزال الطريق أمامنا طويلًا.

وفقًا لأحدث الأرقام الرسمية، لا يزال إجمالي تشغيل العمالة في الولايات المتحدة منخفضًا بنحو 9.5 ملايين وظيفة مقارنة بما كان عليه عندما بدأ الركود، وما يقرب من 12 مليون وظيفة من الاتجاه قبل الجائحة. ويبلغ معدل البطالة، بعد تعديلة بما يتناسب مع الانخفاض الحاد الذي طرأ على المشاركة في قوة العمل، نحو 10%، والمعدل أعلى بين الأميركيين من أصول إفريقية أو لاتينية، وبين النساء والأشخاص الأقل تعليمًا، بما يعكس الطبيعة المزدوجة التي تتسم بها الجائحة والتفاوتات الأطول أمدًا في سوق العمل.

يتمثَّل اتجاه آخر يسبق جائحة كوفيد-19 في تحوُّل العمل من خلال الأتمتة (التشغيل الآلي) والتحوُّل الرقمي ــ وهي العملية التي تسارعت بفعل الكيفية التي استجابت بها الشركات والمستهلكين للجائحة. يهدد هذا الاتجاه أيضًا بتعميق أوجه التفاوت القائمة من قبل، لأنَّ العمال من ذوي البشرة السوداء واللاتينيين ممثلون بشكل مفرط في الوظائف المعرضة للخطر الأعظم من الأتمتة.

يتطلب التعافي المستدام لاقتصاد في حالة التشغيل الكامل للعمالة ووفرة "الوظائف الجيدة" إعادة توزيع كبرى للعمال من الوظائف ذات الأجور المنخفضة التي تتطلب مهارات متدنية، والتي اختفت نتيجة للجائحة، إلى وظائف جديدة تتطلب مهارات أعلى والمزيد من التدريب. تشير دراسة حديثة أجراها معهد ماكينزي العالمي إلى أنَّ ما يصل إلى 25% "أكثر من العمال، مقارنة بما كان مقدرًا سابقًا، "ربما يضطرون "إلى تغيير مهنهم".

(الرسم البياني رقم 1)

خلفت الجائحة تأثيرًا شديدًا بشكل خاص على الوظائف التي تتطلَّب مستويات عالية من التقارب البدني والاتصال وجهًا لوجه، والتي تشمل عمال الخدمة والسقاة في المطاعم، وموظفي المتاجر، وموظفي الاستقبال في الفنادق، وعمال الملاعب الرياضية، ومصمِّمي الأزياء وتسريحات الشعر، وغير ذلك من الوظائف المنخفضة الأجر. ومرة أخرى، نجد أنَّ النساء، والأقليات، والأقل تعليمًا ممثلون بشكل كبير بين هؤلاء العاملين في الخطوط الأمامية.

من المرجح أن تستمر العديد من ممارسات التباعد الجسدي التي تبناها المستهلكون والشركات أثناء الجائحة. في عام 2020، سجلت مبيعات التجارة الإلكترونية زيادة تجاوزت 32%، وكان نموها أسرع بنحو مرتين إلى خمس مرات من معدلها المتوسط على مدار السنوات الخمس السابقة. والآن، يقول العديد من المستهلكين إنهم سيستمرون في التسوق عبر الإنترنت حتى بعد انقضاء الجائحة.

(الرسم البياني رقم 2)

على نحو مماثل، يعتمد بقاء العديد من الشركات الآن على قدرتها على التحول إلى العمل عن بُـعد، وهي الممارسة التي قاومتها الشركات لفترة طويلة. ومع ظهور أدلة تشير إلى أنَّ الموظفين الذين يعملون عن بُـعـد يعملون لساعات أطول في بعض الأحيان وأنهم أكثر إنتاجية، تخطط العديد من الشركات للسماح بأنماط عديدة من الترتيبات الهجينة بعد الجائحة.

يشير تحليل أجراه معهد ماكينزي العالمي على أكثر من 2000 نشاط عبر نحو 800 مهنة إلى أنَّ ما يصل إلى ربع العاملين في الاقتصادات المتقدمة يمكنهم أداء وظائفهم عن بُـعـد من 3 إلى 5 أيام في الأسبوع دون خسارة أي قدر من الفاعلية. وهذا من شأنه أن يُـتَـرجَـم إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يعملون من المنزل بانتظام بنحو أربع إلى خمس مرات.

لكن العمل عن بُـعـد يتركز في الوظائف الأعلى أجرًا. تشير دراسة مسح أجريت في الولايات المتحدة في إبريل/نيسان الماضي إلى أن ما يقرب من 60% من العمال من ذوي الدخل المرتفع يستطيعون أداء وظائفهم بفعالية من المنزل، مقارنة بنحو 34% من العمال من ذوي الدخل المنخفض. وليس من المستغرب أن تعاني المهن العالية الأجر في الولايات المتحدة من انخفاضات أقل كثيرًا في تشغيل العمالة من تلك التي تكبدتها الفئات المتدنية الأجر.

إنَّ التحوُّل الكبير الدائم إلى العمل عن بُـعـد من شأنه أن يخلف عواقب بعيدة المدى على المراكز الحضرية والعاملين الذين يقدمون الخدمات في مباني المكاتب، والمطاعم، والفنادق، والمتاجر. قبل الجائحة، كانت مثل هذه الخدمات تمثل نحو واحدة من كل أربع وظائف، فضلًا عن حصة كبيرة ومتزايدة من تشغيل العمالة بين العاملين غير الحاصلين على تعليم ما بعد الثانوي. والآن، تؤكد أبحاث حديثة أنَّ الطلب على الخدمات المحلية في المدن بدأ ينخفض مع زيادة العمل عن بُـعـد المرتبطة بالجائحة.

الواقع أنَّ المزيد من العمل من المنزل والعمل عن بُـعـد قد يفضي إلى تغيير دائم في جغرافية العمل، وهذا من شأنه أن يحفز هجرة المواهب في الأمد الأبعد من المدن الكبرى العالية التكلفة التي كانت في السابق المحرك لخلق فرص العمل. وبالفعل، تشير الأدلة المستقاة من إيجارات المساكن ومعدلات الشواغر المكتبية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا إلى أن بعض العاملين والشركات تنتقل من المناطق الأعلى تكلفة إلى المدن الأصغر حجمًا. علاوة على ذلك، تتنافس دول بأكملها الآن على اجتذاب العاملين عن بُـعـد الطلقاء. على سبيل المثال، خففت إستونيا وجورجيا متطلبات التأشيرات القصيرة الأجل، وتقدم اليونان حوافز ضريبية خاصة.

كما تستثمر الشركات في التكنولوجيات الرقمية والأتمتة لتمكين المزيد من التباعد البدني بين موظفيها، وخلق المرونة للتعامل مع التغيرات الطارئة على الطلب. وقد ساعدت الروبوتات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي العاملين في خطوط التجميع على الحفاظ على التباعد الاجتماعي الآمن؛ وعجلت بعمليات مستودعات التجارة الإلكترونية؛ وسمحت بالمزيد من الدفع الذاتي في المتاجر؛ وساعدت البنوك على معالجة الزيادة في قروض التحفيز؛ بل وعملت حتى عمل الطهاة، في تقليب البرجر وإعداد البطاطس المقلية.

من المرجح أن تؤدي هذه الأشكال من الأتمتة المدفوعة بالجائحة إلى إزاحة العمال على نطاق أكبر من كل ما توقعه خبراء الاقتصاد سابقًا. وسوف يكون التأثير الأعظم في وظائف الخدمات الغذائية، وتجارة التجزئة، والضيافة، وخدمات العملاء، ودعم المكاتب، والتي كانت تمثل حصة كبيرة من العمالة قبل الجائحة وتشمل في الأساس الوظائف ذات الأجور المنخفضة.

في الولايات المتحدة، قد تكون الوظائف في مجالات الغذاء وخدمة العملاء أقل بنحو 3.4 ملايين وظيفة، فضلًا عن ما يقرب من مليون وظيفة دعم مكتبية أقل في عام 2030 مقارنة بالعدد الذي كانت لتبلغه لو لم تحدث الجائحة. تعرض جميع البلدان الثمانية التي شملتها الدراسة ــ الصين، وفرنسيا، وألمانيا، والهند، واليابان، وإسبانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة ــ ذات النمط من انخفاض الطلب على المهن والوظائف المنخفضة الأجر. في هذه البلدان، سوف يحتاج ما يقدر بنحو 12% أكثر من العمال، مقارنة بما كنا نتوقع قبل الجائحة، إلى تغيير مهنهم.

أخيرًا، من المنتظر أن تنمو الوظائف بين أعلى 30% من جدول الأجور ــ مثل تلك في مجال الرعاية الصحية والمهن المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. لكن هذه الوظائف تتطلب مزيجًا مختلفًا تمامًا من المهارات والمؤهلات مقارنة بالوظائف المنخفضة الأجر التي بدأت تختفي. وعلى هذا فإنَّ تدريب العمال المزاحين سيصبح أولوية كبرى.

يتيح عدم التوافق المحتمل بين متطلبات المهارة في المستقبل والوظائف المتاحة الفرصة لإصحاب العمل من مختلف الأحجام لإعادة تصور العمل، وقوة العمل، ومحل العمل. لكنه يزيد أيضًا من الحاجة الملحة إلى تمويل وتنفيذ برامج التدريب ودعم الدخل الفعّـالة لصالح العاملين الذين يضطرون إلى الانتقال إلى مهن وصناعات ومواقع أخرى.

إنَّ بناء مستقبل "الوظائف الجيدة" أمر ممكن. ولكن كما تشير لجنة مستقبل العمل في كاليفورنيا في تقرير جديد، فإنَّ تحقيق هذه الغاية يتطلب الاستثمار العام والخاص في مهارات العمال.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

لورا تايسون رئيسة مجلس مستشاري رئيس الولايات المتحدة للشؤون الاقتصادية سابقًا، وهي أستاذة في كلية الدراسات العليا التابعة لكلية هاس لإدارة الأعمال، ورئيسة مجلس أمناء مركز بلوم التابع لجامعة كاليفورنيا في بيركلي. سوزان لوند شريك ماكينزي آند كومباني، وقائدة في معهد ماكينزي العالمي.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org

مرفق بهذا التعليق رسمان بيانيان، يمكنكم تنزيلهما هنا.