ثبات السلوك الاقتصادي المدفوع بالجائحة
آنو مادجافكار، جانا ريميس
مومباي/سان فرانسيسكو ــ عندما اندلعت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، اضطرت الشركات والعمال والمستهلكين إلى التكيف بسرعة من أجل مواصلة العمل في ظل القيود التي فرضتها الجائحة. والآن بعد أن أتاحت اللقاحات استئناف المزيد من الأنشطة "الطبيعية"، في بعض البلدان على الأقل، فإنَّ مدى استمرار هذه التغيرات يُـعَـدُّ واحدًا من التساؤلات الأكثر إلحاحًا التي يواجهها عالَـم الشركات والأعمال.
وجد بحثنا أنَّ استمرار التغيرات السلوكية التي استحثتها الجائحة يتوقف على مجموعة من القرارات التي تتخذها الشركات والسياسات الحكومية، والتي بدورها تحدد اختيارات المستهلكين والموظفين. الواقع أنَّ هذه العوامل لا تتعاون دائمًا لجعل تفضيلات المستهلكين ثابتة. على سبيل المثال، تشير دراسات إلى أنَّ 30% إلى 50% من المستهلكين يعتزمون شراء منتجات معمرة. لكن مثل هذه المنتجات تمثل عادة أقل من 5% من إجمالي المبيعات، ويرجع هذا جزئيًّا إلى حقيقة مفادها أنَّ الشركات تتقاضى أسعارًا أعلى في مقابل مثل هذه المنتجات ولا تقدم الحكومات أي حوافز لشرائها.
في المقابل، خلقت الارتباكات العالمية التي أحدثتها جائحة كوفيد-19 ما يمكن وصفه بالعاصفة الكاملة حيث توافقت بعض التحولات في سلوك المستهلك مع التغيرات في العمليات التجارية والضوابط التنظيمية الحكومية. الواقع أنَّ العديد من هذه السلوكيات كانت سببًا في تسريع وتيرة الممارسات التي كانت تبشر بخير قبل الجائحة، لكنها فشلت في اكتساب الزخم بسبب مخاوف تتعلق بالتكلفة أو شكوك واسعة الانتشار. وقد تسبَّب الفيروس، من خلال خلق الفرصة للتجريب مع هذه الممارسات، في جعل قيمتها أشد وضوحًا.
علاوة على ذلك، ساعد التقدم الذي طرأ على التكنولوجيات الرقمية على خلق نظام بيئي واسع لدعم هذه التغيرات السلوكية. فقد جمعت بعض الشركات بين مؤتمرات الفيديو وتكنولوجيات الواقع المعزز لأول مرة لتمكين الفنيين في موقع ما من إصلاح الآلات في موقع آخر. وزادت شركات أخرى من استثماراتها في المعالجة الروبوتية، وبالتالي ساعدت على تحويل إدارة الأعمال المكتبية الروتينية. ومن المرجَّح أن يؤدي توفير التكاليف والراحة الناجمة عن استخدام مثل هذه الأدوات إلى تعزيز قدرة العمل عن بُـعـد على البقاء والاستمرار والحد من سفريات العمل، بين ممارسات أخرى متغيرة.
لتحديد ما إذا كانت مثل هذه التحولات المدفوعة بالجائحة لتستمر، قمنا بفحص مجموعة واسعة من السلوكيات. وكنّا حريصين على تطبيق "اختبار الثبات" على كل منها، واضعين في الحسبان تفضيلات المستهلكين والعاملين، فضلًا عن تصرفات الشركات ــ بما في ذلك الإبداع الذي أطلقت له الأدوات الرقمية العنان ــ والسياسات الحكومية.
لنتأمل هنا مسألة البيع بالتجزئة عبر الإنترنت. وجد العديد من المستهلكين الذين تسوقوا عبر الإنترنت لشراء البقّالة بدافع الضرورة أثناء الجائحة أنَّ هذه الممارسة مريحة وملائمة. من ناحية أخرى، عمل تجار التجزئة على تكثيف استثماراتهم عبر الإنترنت وإنشاء المزيد من خيارات المنتجات والتسليم لصالح المستهلكين، بما في ذلك التسوق عن طريق "النقر والتحصيل" لأولئك الذين يكرهون رسوم التوصيل. ظلت الزيادة في أعداد المستخدمين ثابتة حتى الآن في الأغلب الأعم. كما دعمت تغييرات السياسة التنظيمية الاستهلاك عبر الإنترنت. على سبيل المثال، خففت حكومة الولايات المتحدة القيود المفروضة على الأماكن حيث يستطيع من يتلقون مدفوعات المساعدات الغذائية استخدامها، وهو تعديل بسيط أفضى إلى تعزيز الراحة وجلب فوائد تجارية.
قد لا تستمرُّ سلوكيات جديدة أخرى إذا لم تتكيف الأدوات الرقمية وممارسات السوق بالقدر الكافي لتوفير تجربة أفضل للمستخدم. لهذا السبب، من المرجح أن ينحسر التعليم عبر الإنترنت، وخاصة للطلاب الأصغر سنًّا. تشير تجربة الطلاب والمعلمين والآباء، غير المرضية غالبًا، مع التعلُّم عن بُـعد، وخاصة بين الأسر التي تفتقر إلى الأدوات الرقمية أو الاتصالية الكافية، إلى أنَّ التعلُّم عن بُـعد لن يستمرَّ إلا بشكل انتقائي، وغالبًا في مجال التعليم العالي والتدريب الوظيفي.
الواقع أنَّ ثبات عادات الإنفاق المتغيرة يتعزز من خلال استثمارات الأفراد المسبقة في أنماط استهلاكية جديدة. على سبيل المثال، استثمر المستهلكون الذين اضطروا إلى "البقاء في البيت" أثناء الجائحة، مبالغ كبيرة في المفروشات، والسلع المعمرة، ومعدات الألعاب والتمارين الرياضية. ومن المرجَّح أن يستمروا في قضاء وقت أطول في ممارسة الأنشطة المنزلية مثل الطهي ومشاهدة أحدث البرامج الناجحة على أجهزة التلفزيون ذات الشاشات الضخمة التي اشتروها أثناء احتجازهم في منازلهم.
ينطبق مثال مشابه لثبات السلوكيات على العمال. من منظور بعض العاملين، كان العمل من المنزل أثناء الجائحة مُـشبِـعًا لرغبة قديمة في المزيد من المرونة والتحرر من الاضطرار إلى الانتقال إلى محل العمل يوميًّا والعودة إلى المنزل، بين مزايا أخرى. في استطلاع حديث أجرته شركة ماكينزي على أكثر من 5000 موظف بدوام كامل في تسعة بلدان، قال 52% إنهم يرغبون في تطبيق خطة عمل هجينة عن بُـعد في المستقبل، بزيادة قدرها 22 نقطة مئوية مقارنة بالحال قبل الجائحة، وفضل 11% ترتيب العمل عن بُـعد بالكامل. ويشير تحليلنا لنحو 2000 نشاط عبر أكثر من 800 مهنة إلى أنَّ ما يصل إلى ربع العاملين في الاقتصادات المتقدمة يمكنهم العمل عن بُـعد من ثلاثة إلى خمسة أيام في الأسبوع دون خسارة أي قدر من الإنتاجية. وعلى هذا فإنَّ أرباب العمل، في بعض الأماكن، يواجهون مسألة تحديد مقدار العمل عن بُـعد الذي يمكنهم السماح به.
إذا استمرت هذه التغيرات في أنماط العمل، فربما تخلف تأثيرات غي مباشرة على سلوكيات أخرى. على سبيل المثال، نتوقَّع أن يعود الطلب على السفر الجوي الترفيهي إلى معدلات نموه السابقة للجائحة في الأمد القريب. وقد بدأت أسعار تذاكر الطيران والغرف الفندقية ترتفع بالفعل، حيث خفَّفت العديد من المواقع القيود التي فرضتها جائحة كوفيد-19 وزاد المستهلكون من عمليات البحث عبر الإنترنت عن أماكن العطلات.
لكن التأثير الأبعد أمدًا الذي قد تخلفه جائحة كوفيد-19 على صناعة السفر يظلُّ أقلَّ وضوحًا. في السابق، كانت أسعار تذاكر السفر المرتفعة على درجة الأعمال تدعم فعليًّا الأسعار المخفضة المقدمة للمسافرين بغرض الترفيه على الدرجة الاقتصادية، وتوسع نطاق اختيارهم لمقاصد السفر. لكن إذا تسببت الزيادة في العمل عن بُـعد وأدوات التعاون الرقمي في تقليل الطلب على السفر على درجة الأعمال، فقد تتضاءل استفادة قطاع الترفيه.
ستوفر التغيرات السلوكية التي تستمر بعد انحسار الجائحة فرض عمل جديدة للشركات التي تحرص على إجراء تقييم دقيق لتفضيلات المستهلكين، وما يرتبط بها من تغيرات في الممارسات الصناعية، وتدابير المنافسين، والسياسات والضوابط التنظيمية الحكومية. يشير بحثنا إلى أنَّ متوسط نمو الإنتاجية السنوي قد يزيد بمقدار نقطة مئوية واحدة تقريبًا حتى عام 2024 إذا استمرت الاتجاهات الثابتة التي نحددها.
الحقُّ أنَّ صنّاع السياسات قادرون على مساعدة العالَـم على اغتنام هذه الفرصة من خلال توسيع وتحسين البنية الأساسية الرقمية وضمان وصول كل المستهلكين والعاملين والشركات إليها. وإذا كانت الفوائد واسعة الانتشار، فقد تُـفضي مكاسب الإنتاجية المحتملة إلى التعافي القوي المنصف.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
آنو مادجافكار شريكة معهد ماكينزي العالمي وتقيم في مومباي. جانا ريميس شريكة معهد ماكينزي العالمي وتقيم في سان فرانسيسكو.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org