انعزال سوق الأسهم
كينيث روجوف
كمبريدج ــ تُـرى لماذا ترتفع تقييمات أسواق الأسهم إلى عنان السماء في حين يظلُّ الاقتصاد الحقيقي هشاً للغاية؟ أصبح أحد العوامل وراء هذه الحال واضحاً على نحو متزايد: لقد أثرت الأزمة بشكل غير متناسب في الشركات الصغيرة وعمال الخدمات من ذوي الدخل المنخفض. ربما تشكِّل هذه الفئة ضرورة أساسية للاقتصاد الحقيقي، لكنها ليست ضرورية لأسواق الأسهم. ولا يخلو الأمر من تفسيرات أخرى للتقييمات المرتفعة اليوم، لكن لكل ٍّمنها حدود تقيده.
على سبيل المثال، لأنَّ أسواق الأسهم تنظر إلى المستقبل، فقد تعكس أسعار الأسهم الحالية التفاؤل إزاء الأخبار حول الوصول الوشيك للقاحات مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) والتحسُّن الجذري الذي طرأ على خيارات الاختبار والعلاج، والذي من شأنه أن يسمح بنهج أكثر محدودية ودقة في إدارة عمليات الإغلاق. ربما تكون هذه النظرة مبررة، أو ربما يكون الأمر أنَّ الأسواق تستخفُّ باحتمالات حدوث موجة ثانية شديدة هذا الشتاء، وتغالي في تقدير فاعلية وتأثير اللقاحات من الجيل الأول.
التفسير الثاني، وربما الأكثر إقناعاً، لأداء أسواق الأسهم اليوم هو أَّن البنوك المركزية دفعت أسعار الفائدة إلى الهبوط إلى ما يقرب من الصِّـفر. ومع اقتناع الأسواق بأنَّ احتمالات ارتفاع الأسعار في المستقبل المنظور ضئيلة، ارتفعت أسعار الأصول المعمرة مثل المساكن، والفنون، والذهب، بل وحتى عملة البيتكوين. ولأنَّ تدفقات إيرادات شركات التكنولوجيا تميل بعيداً باتجاه المستقبل، فقد استفادت بشكل غير متناسب من أسعار الفائدة المنخفضة.
ولكن مرة أخرى، ليس من الواضح ما إذا كانت الأسواق محقّة في توقُّع استمرار أسعار الفائدة المنخفضة بلا نهاية. الواقع أنَّ تأثيرات العرض السلبية الطويلة الأمد، وخاصة نتيجة لتراجع العولمة، قد تستمرُّ لفترة طويلة بعد تعافي الطلب العالمي.
يتمثَّل تفسير ثالث في أنَّ البنوك المركزية، إضافة إلى تقديم أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض، دعمت أسواق السندات الخاصة بشكل مباشر ــ وهو ما يمثِّل تدخلاً غير مسبوق في حالة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. لا ينبغي اعتبار عمليات شراء السندات الخاصة هذه على أنها سياسة نقدية بالمعنى التقليدي. بل إنها أقرب إلى سياسة شبه مالية، حيث يعمل البنك المركزي كوكيل للخزانة في حالات الطوارئ.
ومن هنا فإنَّ هذا التدخُّل بعينه من المرجح أن يكون مؤقتاً، حتى برغم أنَّ البنوك المركزية لم تنجح بعد في بث هذه الحقيقة إلى الأسواق. وعلى الرغم من تقلبات الاقتصاد الكلي الحادة والمعروض المتزايد الارتفاع من ديون الشركات، فإنَّ فوارق أسعار الفائدة على الديون الحكومية تقلصت فعلياً في العديد من الأسواق، ولا يزال عدد حالات إفلاس الشركات الكبرى حتى الآن منخفضاً بشكل ملحوظ بالنظر إلى حجم الركود.
عند مرحلة ما، سوف تتحرر الأسواق من وهم فكرة مفادها أنَّ دافعي الضرائب سيغطون كلَّ شيء إلى أجل غير مسمّى. والبنوك المركزية مقيدة في النهاية بمقدار المخاطر المسموح لها بتحملها، أما الاعتقاد بأنها لا تزال لديها الرغبة في تحمُّل المزيد فقد يتبدَّد إذا وصلت موجة ثانية شديدة هذا الشتاء.
في حين تقدم هذه التفسيرات الثلاثة بعض الأفكار حول سبب ارتفاع أسعار الأسهم في وقت حيث يتجه الاقتصاد الحقيقي إلى الانحدار، فإنها تميل إلى إغفال قطعة كبير من اللغز: فالألم الاقتصادي الذي تحدثه جائحة كوفيد-19 لا تتحمّله الشركات المتداولة في البورصة. بل يقع الأمر برمته على عاتق الشركات الصغيرة وأصحاب الخدمات الفردية ــ من محلات التنظيف الجاف إلى المطاعم إلى مقدمي الترفيه ــ وكلُّ هذا غير مدرج في أسواق البورصة (التي تميل أكثر نحو التصنيع). من الواضح أنَّ هؤلاء اللاعبين الصغار لا يملكون ببساطة رأس المال اللازم للنجاة من صدمة طويلة الأمد وبهذا الحجم. والآن بدأت البرامج الحكومية التي ساعدت في الإبقاء على قدرتهم على الاستمرار لبعض الوقت تنحسر، مما يزيد من خطر تأثير كرة الثلج في حالة حدوث موجة ثانية.
سوف يُـنـظَـر إلى بعض حالات فشل الشركات الصغيرة على أنها جزءٌ لا يتجزَّأ من إعادة الهيكلة الاقتصادية الأوسع التي أشعلت الجائحة شرارتها. لكن وفرة من الشركات القابلة للحياة والاستمرار ستفشل أيضاً، مما يجعل الشركات الضخمة المتداولة في أسواق الأسهم في وضع أقوى في السوق مقارنة بما كانت عليه بالفعل. (صحيح أنَّ بعض الشركات الكبيرة تقدمت بطلبات الحماية من الإفلاس، لكن أغلبها ــ وخاصة شركات التجزئة التقليدية ــ كانت بالفعل في ورطة قبل الجائحة).
وتزداد حدة التأكيد على التأثير غير المتكافئ الذي تخلفه الجائحة؛ لأنَّ عائدات الضرائب الحكومية لم تنخفض بالقدر الذي كان المرء ليتوقعه، نظراً لحجم الركود ومستويات البطالة غير المسبوقة منذ ما بعد الحرب (أوفي حالة أوروبا النفقات الهائلة لتغطية تكاليف إجازات العمال). والسبب بطبيعة الحال هو أنَّ خسائر الوظائف كانت متركزة بين الأفراد من ذوي الدخل المنخفض الذين يدفعون ضرائب أقل.
لكن المخاطر التي تواجه أسواق الأسهم المرتفعة اليوم ليست اقتصادية وحسب، بل تضمُّ على سبيل المثال لا الحصر احتمالاً كبيراً يتمثَّل في حدوث أزمة سياسية غير مسبوقة في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني. بعد أزمة 2008 المالية، شهدنا ردة فعل عنيفة واسعة النطاق إزاء السياسات التي بدا وكأنها تحابي الشركات الكبرى في "وال ستريت" على حساب الشركات الصغيرة في "مين ستريت". هذه المرة، سوف يوجَّه الذمُّ والتشهير مرة أخرى نحو "وال ستريت"، لكن الغضب الشعبوي سيكون موجهاً أيضاً نحو وادي السليكون.
وسوف تكون إحدى النتائج المحتملة، وخاصة إذا تسبَّبت عملية تفكيك العولمة الجارية في زيادة حدة الصعوبات التي تواجهها الشركات في تحويل عملياتها إلى بلدان حيث الضرائب منخفضة، تحول اتجاه الانخفاض في معدلات الضرائب على الشركات إلى العكس. ولن يكون هذا مفيداً لأسعار الأسهم، ومن الخطأ أن نتصوَّر أنَّ الاستجابة الشعبوية قد تتوقَّف عند هذا الحد.
إلى أن تصبح تقييمات أسواق الأسهم المرتفعة مدعومة بالتعافي العريض القاعدة في كل من النتائج الصحية والاقتصادية، لا ينبغي للمستثمرين أن يستسلموا للشعور بالارتياح المبالغ فيه إزاء أرباحهم الضخمة التي تحقَّقت أثناء الجائحة. فما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
كينيث روجوف كبير خبراء الاقتصاد الأسبق لدى صندوق النقد الدولي، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org