تثمين القدرة على الصمود بعد الجائحة

كارل فولك

ستوكهولم ــ إذا كانت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) عَـلَّـمَت العالَـم شيئًا واحدًا فهو الثمن الباهظ الذي ندفعه ــ الخسائر في الأرواح، والاقتصادات الـمُـدَمَّرة، والإمكانات البشرية المهدرة ــ عندما نستخفُّ بقيمة القدرة على الصمود. من خلال تطبيق هذا الدرس، يصبح بوسعنا تعزيز قدرتنا على تحمُّل صدمات المستقبل.

على مدى القرون القليلة الماضية، توصَّلت المجتمعات إلى صيغة بسيطة لتحقيق التقدم والرخاء: النمو الاقتصادي. يبدو الأمر وكأنَّ الزيادة المضطردة في الناتج والإنتاجية هي الدواء الشافي لكل المتاعب والمشكلات، بما في ذلك انعدام الأمن الغذائي، والفقر، والمرض. ولكن هل وصلنا الآن إلى النقطة حيث تصبح استراتيجية النمو فخًّا يتسبَّب في توليد مشكلات جديدة على نطاق متزايد الاتساع؟

يبدو الأمر كذلك. ففي تقرير نُـشِـر أخيرًا قبيل انعقاد قمة جائزة نوبل الأولى على الإطلاق هذا الشهر، بعنوان "كوكبنا، مستقبلنا"، أزعم أنا وزملائي أنَّ فشل العالم في تثمين قيمة القدرة على الصمود اجتماعيًّا وبيئيًّا يعني أنَّ صدمات هذا القرن ستكون أشدَّ قسوة، وأكثرَ إرباكًا، وسوف تخلف تأثيرات أطول أمدًا على مدى قرون أو حتى آلاف السنين. ولكن بوسعنا أن نعمل على بناء القدرة على الصمود الاجتماعي من خلال تعزيز المساواة، والثقة، والتعاون، والمرونة البيئية من خلال تثمين قيمة التنوع والتعقيد قبل الكفاءة والبساطة.

الواقع أنَّ الجائحة كانت قاسية في تسليط الضوء على المخاطر المترتبة على تجاهل المرونة والقدرة على الصمود. لقد أصبحت اقتصاداتنا تتسم بالاتكالية المتبادلة إلى الحد الذي جعل مصير أحدها يتوقَّف على أداء اقتصادات أخرى في نصف العالم الآخر. وتحوَّلت مدننا، التي كانت عادة خلايا للصناعة والإبداع، إلى بؤر ساخنة للمرض. وحتى أنظمة النقل التي نعتمد عليها مصممة بشكل مثالي لنقل مسببات الأمراض حول كوكب الأرض. وبعض شبكات الاتصال الرئيسة في عالَـمنا تعطي الأولوية للأكاذيب والمعلومات المضللة وليس الحقيقة والصدق، إلى الحد الذي يجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال.

تعمل مستويات شديدة من التفاوت وعدم المساواة على إضعاف القدرة المجتمعية على الصمود، وبطرق واضحة غالبًا. إذ تملك البلدان الأكثر فقرًا، حيث عدد المستشفيات أقل والقوة البحثية متواضعة والحوكمة أضعف، مستوى ضئيلًا من القدرة على إدارة الجائحة. وفي المجتمعات الثرية، يكون السكان الأكثر فقرًا هم غالبًا الأشد ضعفًا، لأنَّ عوامل الخطر التي يتعرَّضون لها أعظم. فهم معرَّضون لمقادير أعلى من تلوث الهواء، وأكثر عُـرضة للإصابة بالسِّـمنة والبدانة، ويعيشون في ظروف يغلب عليها الازدحام أكثر من الأثرياء. وعلى هذا فقد ضربتهم الجائحة بقسوة أكبر وانتشرت بينهم بسرعة أكبر.

لكن التفاوت الاقتصادي قد يؤدي أيضًا إلى تآكل المرونة والقدرة على الصمود بطرق أخرى. تميل الثقة بالحكومات إلى الانخفاض في المجتمعات الأقل مساواة، ويرجع هذا جزئيًّا إلى أنَّ المواطنين الأكثر فقرًا يتصورون أنَّ الساسة يخدمون في الأساس مصالح الـنُـخَـب. وهذا من شأنه أن يشجع صعود القادة الشعبويين، وأن يجعل من الصعب ملاحقة سياسات طويلة الأمد تؤثر في جميع المواطنين داخل المجتمعات وبين المجتمعات.

كل هذا يمثِّل تحديًّا صعبًا بما فيه الكفاية. ولكن في تقريرنا نخلص إلى أنَّ أكبر الصدمات المحتملة هذا القرن تنبع من علاقتنا السامة مع الطبيعة. لا يقل عمر الغلاف الحيوي المحيط بكوكب الأرض ــ المنطقة الأقرب إلى سطح الأرض حيث تزدهر الحياة ــ عن 3.5 مليارات عام. ولكن في غضون حياة بشرية واحدة، ولنقل منذ خمسينيات القرن العشرين، تسبَّبت البشرية بشكل منهجي في تقليص مرونة موطنها وقدرته على الصمود، مما أفضى إلى تغير المناخ وخسارة التنوع البيولوجي.

الواقع أنَّ البشر يشَـرِّحون ويقطعون ويُـبَـسِّـطون المحيط الحيوي. نحن ندير 75% من الأراضي الصالحة للسكنى على الأرض، لأغراض الزراعة في الأغلب الأعم. لقد اغتصبنا ما يقرب من ربع كل الطاقة من النباتات على الأرض، ويمثل البشر وماشيتهم 96% من جميع الثدييات التي تعيش على كوكبنا بالوزن. وبينما نشقُّ طريقنا عبر الغابات والأراضي الرطبة والمراعي، فإنَّ الأنواع الأكثر قدرة على الصمود ــ تلك القادرة على التكيف بسرعة أكبر بل وحتى الازدهار في بيئة بشرية ــ هي في الغالب تلك مثل الخفافيش والجرذان، التي تستضيف بسهولة مسببات الأمراض الـمميتة.

تعتمد مرونة المحيط الحيوي ــ قدرته على الصمود، وامتصاص الصدمات، والنماء في ظل ظروف دائمة التغير ــ على التنوع، وعلى قدرة الحياة على تجديد المواد والتطور بطرق جديدة في مواجهة عدم اليقين والمجهول. ويستلزم تعزيز هذه المرونة أن نحترم حدودنا الكوكبية وأن ندعم التنوع البيئي. ولكن في المقام الأول من الأهمية، نحتاج إلى تقدير وتثمين المشاعات العالمية بطرق جديدة.

نحن نواجه عاصفة كاملة. ويتطلَّب بقاؤنا على كوكب الأرض إعادة النظر في النهج الذي نتبعه في تقييم مدى قدرة حضارتنا العالمية على الصمود، بدءًا بالإقرار بأنها تشكِّل جزءًا لا يتجزَّأ من المحيط الحيوي الذي تعتمد عليه تمامًا. يتعيَّن علينا ببساطة أن نبدأ التعاون مع الكوكب الذي نعيش عليه. لا يجوز لنا أن نقدر قيمة غابات الأمازون المطيرة بذات الطريقة التي نقدر بها قيمة الشركة التي تحمل ذات الاسم. على نحو مماثل، من غير الممكن تثمين استقرار دوران المحيطات أو القارة القطبية الجنوبية ــ وكل منهما تُـظـهِـر علامات الهشاشة ــ بذات الطريقة التي نثمِّن بها السلع الاستهلاكية. نحتاج أيضًا إلى تقدير قيمة المجتمعات المتماسكة، والشمولية، والتعاون، والثقة.

تشكِّل جائحة كوفيد-19 لحظة تحويلية للمجتمعات. نحن نعلم أننا في احتياج إلى خفض انبعاثات غازات الانحباس الحراري الكوكبي إلى النصف بحلول عام 2030. كما نعلم أنَّ ثورة صناعية رابعة بدأت بالفعل. وكنا نعلم منذ الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008 أنَّ العودة إلى العمل كالمعتاد ليست الطريقة المناسبة لبناء مستقبل مزدهر ومستدام.

يتعيَّن علينا الآن أن نعمل على تحويل اقتصاداتنا على النحو الذي يعطي الأولوية للتنوع والمرونة قبل البساطة والكفاءة. وهذا يعني أولًا وأخيرًا تجاوز استراتيجيات النمو السهلة الـمُـدَمِّرة المنفصلة عن الكوكب الذي نسميه الوطن. بدلًا من ذلك، يتعيَّن على الحكومات أن تعكف على إعادة توجيه الديناميكية الاقتصادية نحو ضمان المرونة والقدرة على الصمود لكل من البشر وبيئتهم الطبيعية. ففي نهاية المطاف، يعني تثمين قيمة القدرة على الصمود مستقبلنا جميعًا.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

كارل فولك مدير معهد Beijer للاقتصاد الحيوي في الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، وهو مُـؤَسِّـس مركز ستوكهولم للصمود في جامعة ستوكهولم ومديره العلمي.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org