ما الدور المُفتَرض لمساعدات التنمية؟
نانسي تشيان
شيكاغو ــ تمثِّل مساعدات التنمية إحدى أهم أدوات السياسات التي تمتلكها الدول الغنية لتحويل الموارد لمساعدة الدول الفقيرة. فخلال الفترة بين عامي 1960 و2013، قدمت دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من مساعدات التنمية الرسمية ما قيمته 3,5 تريليونات دولار (حسب متوسط قيمة الدولار عام 2009)، فيما حصلت الدول الإفريقية على 568 مليار دولار تقريبًا (حسب متوسط قيمة الدولار عام 2003).
غير أنَّ مدى فاعلية مساعدات التنمية الرسمية تمثِّل مصدرًا لجدال كبير. وقد ذهب وليام إيسترلي، الاقتصادي السابق بالبنك الدولي، وأنجوس ديتون، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، في سياقين منفصلين، إلى أنَّ المساعدات فشلت في تحفيز تحسينات متواصلة في الدول الفقيرة، بل ربما تسبَّبت في تفاقم الأحوال سوءًا على سوء. وذهبت الاقتصادية دامبيسا مويو إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول بأنَّ المعونات لم تفعل شيئًا إلا زيادة اعتماد الدول النامية على المساعدات الخارجية.
يتخوَّف هؤلاء المنتقدون وغيرهم من احتمالية أن يفضي توافر المساعدات الخارجية إلى تقليص الحوافز لدى الحكومات المستفيدة لتحسين وتطوير المؤسسات في بلادها. ونظرًا لاحتمالية سرقة أموال المساعدات – وهذا ما يحدث في الغالب – من قِبَل الموجودين في السلطة، فقد تتسبَّب تلك المساعدات في تشجيع الفساد، أو تستخدمها الجماعات المسلحة لتغذية الصراعات العنيفة. وبقدر ما تسهم به المساعدات من تأجيج التنافس على موارد رأس المال البشري النادرة كالأطباء والممرضات والمعلمين، لكنها قد تعوق تنمية قدرات الدول أيضًا.
هناك خيط مشترك يربط بين قصص المساعدات غير المجدية. في كل حالة نجد أنَّ الأموال والخدمات إما أن تُعطى في شكل تحويلات للحكومة القائمة، وإمّا أن تُوَصَّل من خلال المنظمات غير الحكومية والمجموعات الأخرى التي لا ترتبط بعلاقات مع الحكومة.
مبدئيًّا، يفترض أن تكون أي حكومة أكثر دراية من المؤسَّسات الأجنبية باحتياجات بلدها، وينبغي لها أن تكون قادرة على تقليل تكلفة تنفيذ المساعدات بتقوية البنية التحتية الموجودة لتقديم الخدمات. فضلًا عن ذلك، فإنَّ تحويل الموارد إلى حكومة قائمة هو أكثر الأنماط مباشرة للتوصيل بالنسبة للمانحين. لكن المشكلة في هذا الخيار بلا شك هي أنه يفترض الكفاءة وحسن النية في الحكومة، وهما شرطان نادرًا ما يتوافران في البلدان الفقيرة.
في المقابل، تستطيع المنظمات غير الحكومية إيصال المساعدات مباشرة إلى الناس على الأرض، وقد أظهرت كفاءة أكبر في دعم الفقراء والمحتاجين في أماكن لا يتاح فيها أي نوع من المساعدات الأخرى. بيد أنَّ المنظمات غير الحكومية التي تعمل في مثل تلك البيئات لا تنسق غالبًا مع الحكومة، الأمر الذي يعوق تنمية قدرات الدولة في الدول الفقيرة. وأحيانًا تهدر المنظمات غير الحكومية الموارد بتكرار الخدمات الحكومية، أو فعل الأسوأ من ذلك وهو منافسة الحكومة على الموارد الشحيحة، كأن تقوم مثلًا "باصطياد" العمالة الماهرة من القطاع العام، وبالتالي قد تتسبَّب تلك المنظمات غير الحكومية في "استنزاف محلي للكفاءات"، عندما يُشتهر عنها تقديم مرتبات أفضل من الحكومة.
ومن ثمَّ تواجه مساعدات التنمية الرسمية معضلة محيرة. فبينما تفتقر حكومات الدول الفقيرة إلى الدافع أو الكفاءة اللازمة لإدارة المساعدات بشكل فعّال ومثمر، لا يمكن للتنمية المستدامة أن تحدث دون إقحام حكومة الدولة في الأمر.
هناك خيار أمام الدول الغنية. يمكنها التخلّي عن الهدف البعيد الأمد المتمثّل في تهيئة الدول الفقيرة وتوجيهها إلى طريق التنمية الذاتية المستقلة، وإعادة تعريف المساعدات كجهد متواصل لتحسين حياة الفقراء. أو بوسع الدول الغنية تغيير المهمة القصيرة الأمد للتركيز على الاستثمار في تعزيز قدرات الدول، باستهداف الحكومات الضعيفة بدلًا من "المستفيدين النهائيين". وقد يخلق النهج الأخير حال نجاحه الظروف المواتية لتنمية مستدامة في الأمد البعيد.
وحتى نرى كيفية تحقيق ذلك، ينبغي لنا أن نلاحظ أنَّ قدرات الحكومة أو الدولة تشير إلى القدرة على تقديم الخدمات إلى السكان، وبالتالي يمكن للعاملين في مجال المساعدات التركيز على تزويد موظفي الحكومات بالأدوات والتدريب اللازمين لتحقيق تلك الغاية. وقد حدد اقتصاديو التنمية عددًا من الأدوات التي ثبت نجاحها في حالات كثيرة، منها علامات القياس الحيوية (البيومترية) أو الفواتير الرقمية لتقليل السرقة، إضافة لاستخدام صور مطبوع عليها التاريخ والتوقيت للحد من تغيُّب مقدمي الخدمات، وحملات لتشجيع المواطنين على مراقبة قادتهم المحليين، ومراجعات شاملة للحسابات من القمة إلى القاعدة للحد من الفساد المحلي، وانتخابات محلية، حتى يمكن مساءلة المسؤولين.
إنَّ التأكيد بوضوح على تنمية القدرات المحلية من شأنه أن يشكِّل انسلاخًا تامًّا عن النهج الحالي، إذ إنه يمثل تحولًا في محور تركيز العمل، كما سيستغني عن الأهداف السياسية أو الأيديولوجية المثالية كربط المساعدات بالديمقراطية. ينبغي أن نكون قد عرفنا الآن أنَّ التغيير السياسي الجذري صعب التحقيق، ناهيك عن الحفاظ عليه بمرور الوقت. لقد حان الوقت للتخلي عن تلك الاستراتيجية التي تعود إلى حقبة ما بعد الحرب الباردة، لأنَّ تسييس المساعدات لن يعزّز التنمية. فقد تفقد مساعدات التنمية الرسمية فعاليتها عند ربطها بأجندة سياسية خارجية، من خلال تبديد ثقة المستفيدين المعنيين.
لكن أي استراتيجية متركزة على تنمية قدرات الدولة تتطلب شرطين مسبقين: أولًا، ضرورة تحفيز الحكومات المستفيدة، وأن تتمتَّع الدولة بحد أدنى من الاستقرار السياسي. وهنا أقول إنَّ جعل المساعدات مشروطة بتعاون الحكومة قد يساعد على حشد الحوافز. أمّا إذا كان عدم الاستقرار منتشرًا على نطاق واسع، فلن يرى القادة السياسيون سببًا وجيهًا للاستثمار في بنية تحتية بيروقراطية.
ثانيًا، يجب أن لا تكون الحكومة المستفيدة شريرة، حيث إنَّ تزايد قوة البيروقراطية من شأنه أن يُمكّن أي دولة من فرض إرادتها بشكل مؤثر على شعبها، مما يعني مخاطر وفوائد محتملة أيضًا. فقد تستخدمها الحكومة لتوسيع إمكانية الالتحاق بالمدارس والحصول على الدواء والمياه النظيفة؛ أو قد تستخدمها للتورُّط في قمع سياسي أو إبادة جماعية. لذا ينبغي للدول المانحة أن تكون يقظة عند تحديد الحكومات التي تستحق استثمارات في قدراتها العامة.
لا ريب أنَّ هذا النهج ليس دواءً شافيًا، لأنه يستثني بالضرورة بعض الأنظمة، لكنه يقدم مخرجًا من المعضلة الصعبة التي قيدت مساعدات التنمية في القرن العشرين، حيث تمثلت المشكلة في عدم استطاعة حكومات الدول الأكثر احتياجًا إيصال المساعدات لشعوبها بشكل فعّال ومؤثر، أو بناء القدرات اللازمة لتحقيق هذه الغاية، وخاصة حينما تتجاوزها الأطراف الفاعلة غير الحكومية أو تعمل على إضعافها.
يمكن حل تلك المعضلة بإعادة تركيز المساعدات على زيادة قدرات الإدارة الحكومية المحلية. قد لا يبدو القيام بذلك على ذات القدر من الجاذبية التي تتمتَّع بها شعارات "القضاء على الفقر" و"نشر الديمقراطية"، لكنه أمر ضروري للتنمية المستدامة، ويتميز بأنه أكثر عملية وجدوى.
ترجمة: أيمن أحمد السِّمِلّاوي Translated by: Ayman A. Al Semellawi
نانسي تشيان مديرة مختبر الصين وأستاذة علوم الاقتصاد الإداري واتخاذ القرار في كلية كيلوج للإدارة في جامعة نورث وِسترن.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org