من يخاف من السياسة النقدية القائمة على القواعد؟

جون ب. تايلور

ستانفورد- في ضوء جائحة كوفيد-19 والظروف التي أدَّت إلى تفشي الوباء، تقوم العديد من البنوك المركزية في العالم بمراجعة رسمية لاستراتيجيات سياستها النقدية. ومما يؤسَف له، أنها تستخلص، على ما يبدو، الدروس الخاطئة من التحديات التي تواجهها.

وكان أول من أكمل هذه العملية هو نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي قرَّر الانتقال إلى "سياسة مرنة جديدة في استهداف متوسط التضخم"، كما وصفها رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، في خطاب ألقاه في مؤتمر السياسة النقدية السنوي في جاكسون هول في أغسطس/آب. كذلك، قالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، أخيراً، في المؤتمر السنوي الحادي والعشرين للبنك المركزي الأوروبي ومراقبيه، أنَّ البنك المركزي الأوروبي "يراجع استراتيجية سياسته النقدية". ويقول محافظ بنك اليابان، هاروهيكو كورودا، أنَّ المناقشات جارية مع الحكومة الجديدة لرئيس الوزراء، يوشيهيدي سوجا، بشأن كيفية التعامل مع الوباء، وما إذا كانت هناك استراتيجية للسياسة النقدية.

وفي ضوء هذه المناقشات، بدا سابقاً وكأنه يجري الإعداد لإصلاح النظام النقدي الدولي بأكمله، حيث تتبع كل دولة أو منطقة استراتيجية مماثلة لتلك التي يعتمدها البنك الاحتياطي الفيدرالي، ومتناسبة مع ظروفها الخاصة في نفس الوقت. ولكن الأمور لم تعد كذلك. إذ يجادل أوتمار إيسينغ، كبير الاقتصاديين السابق، وعضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، الذي كان مسئولاً إلى حد كبير عن رسم المسار الأصلي لصنع سياسة البنك المركزي الأوروبي، قائلاً: "على الأقل، يجب ألا تقلد البنوك المركزية الأخرى استراتيجية بنك الاحتياطي الفيدرالي الجديدة تقليداً أعمى".

وليس إسينغ الوحيد الذي يرى مشكلات النهج الجديد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. إذ في أوائل سبتمبر/أيلول، جادل روبرت هيلر، محافظ الاحتياطي الفيدرالي السابق، في رسالة إلى صحيفة وول ستريت جورنال بأنَّ الاحتياطي الفيدرالي "يجب ألا يستهدف متوسط معدل تضخم يبلغ 2٪". وبعد ذلك، في مؤتمر افتراضي عقدته مؤسسة هوفر بجامعة ستانفورد هذا الشهر، انتقد تشارلز آي بلوسر، الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي في فيلادلفيا، وميكي دي ليفي من مؤسسة Berenberg Capital Market، ( بيرينبرغ كابتل ماركت) بنك الاحتياطي الفيدرالي، لعدم كونه دقيقاً بشأن الفترة الزمنية التي سيتم خلالها قياس متوسط التضخُّم. هل هي سنة واحدة أم عدة سنوات؟

واعترف باول نفسه بهذا النقص في التدقيق في مؤتمر جاكسون هول في أغسطس/آب. وأشار إلى أننا "لا نربط أنفسنا بصيغة رياضية معينة تحدد المتوسط"، وأضاف أنَّ "قراراتنا بشأن السياسة النقدية المناسبة لن تمليها أي صيغة". وبعد ذلك، في بيان صحفي نشر في نفس اليوم، أوضح مجلس محافظي بنك الاحتياطي الفيدرالي أنَّ قرارات السياسة ستستند إلى "تقييمات النقص في الوظائف من أقصى مستوى لها" بدلاً من "الانحرافات عن أقصى مستوى لها"، كما كان قد أعلن عن ذلك في وقت سابق.

ولكن سواء كان التركيز على "الانحرافات" أو "النقص"، فإنَّ هذا النهج الجديد يضيف شكًّا لا لزوم له، لأنَّ أوجه القصور لم تحدد. وفضلاً عن ذلك، لم تتم الإشارة إلى كيفية استخدام السياسة النقدية لتوليد تضخم أعلى لتعويض الفترات التي يكون فيها التضخم أقل من 2٪. فهل ينظر مجلس الاحتياطي الفيدرالي في تغييرات إضافية في إجراءاته تتجاوز المزيج الحالي لأسعار الفائدة القريبة من الصفر، وعمليات شراء الأصول على نطاق واسع؟

ومن خلال اعتماد هذا النهج "المرن"، يبدو أنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي قد تحول بعيداً عن السياسة الأكثر استراتيجية والقائمة على القواعد التي كان يتبعها على الأقل منذ عام 2017. واعتباراً من صيف هذا العام، لم يعد تقرير السياسة النقدية الخاص بالبنك يتحدث عن السياسة النقدية، في حين تضمنت التقارير الستة السابقة قسماً كاملاً تمَّ فيه تقديم قواعد مختلفة، وتمت مقارنتها بالسيناريوهات الفعلية. ومن بين تلك القواعد الإعدادات الشفافة لسياسة سعر الفائدة للاحتياطي الفيدرالي، بما في ذلك ما يسمّى بقاعدة تايلور، وقاعدة مستوى السعر، وقاعدة تايلور المعدلة للتعامل مع الحد الصفري.

ومن المنطقي أن إيسينغ وآخرين سيحجمون عن المضي في نهج بنك الاحتياطي الفيدرالي الأقل استراتيجية وتقديرية، خاصة عندما تكون هناك بدائل يمكن للبنوك المركزية الأخرى اعتمادها. فبدلاً من البحث عن شيء جديد أو ببساطة مختلف عن الاحتياطي الفيدرالي، يمكنها البدء في اتخاذ نفس مسار السياسة المستندة إلى القواعد الذي كان بنك الاحتياطي الفيدرالي نفسه يسلكه قبل تفشي الوباء.

وفي الواقع، سيكون التطبيق أسهل من الكلام. فعندما طورتُ قاعدة تايلور لأول مرة، أسندتها إلى متوسط معدل التضخم؛ ونوقشت هذه القاعدة على نطاق واسع لمدة ثلاثة عقود حتى الآن. ولكن، على عكس التعريف الغامض الذي اعتمده بنك الاحتياطي الفيدرالي الآن، فقد عرّفت "المتوسط" صراحةً على أنه "معدل التضخم خلال الأرباع الأربعة السابقة". وبعبارة أخرى، لا يزال بإمكان بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يتحول إلى نهج متوسط التضخم، وفي نفس الوقت أن يكون أكثر دقة بكثير مما هو عليه الآن.

وفضلاً عن ذلك، تحتوي قواعد السياسة الرسمية المدرجة سابقاً في تقرير السياسة النقدية برمتها على متغيرات لحساب عوامل أخرى غير معدل التضخم، مثل معدل البطالة أو الفجوة بين الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي والمحتمل. ويمكن تضمين هذه المتغيرات في الاستراتيجية الحالية دون إهمال هدف التضخم، شأنها في ذلك شأن قواعد السياسة للتعامل مع مشتريات الأصول وحلها النهائي. ولن يكون من الصعب على بنك الاحتياطي الفيدرالي تطوير مثل هذا النهج، خاصة إذا اختارت البنوك المركزية الأخرى السير في هذا الاتجاه أيضاً.

وقبل عقد من الزمان، أنجزت أنا و جون سي ويليامز، وهو الآن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، دراسة بعنوان "قواعد بسيطة وقوية للسياسة النقدية"، أكدنا فيها على أهمية صنع السياسة المستندة إلى القواعد. وهناك عدد كبير من الدراسات الإضافية التي تظهر فوائد السياسة النقدية المستندة إلى القواعد. وهذا هو السبب وراء تأييد العديد من علماء النقد المتميزين لهذا النهج.

ومما يبعث على التفاؤل أنَّ البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية الأخرى غالباً ما تستخدم كلمة "استراتيجية" عند وصف مراجعات السياسة النقدية الخاصة بها. إنَّ النهج الاستراتيجي هو بالضرورة نهج قائم على القواعد، وهو ما ينبغي اتباعه بالضبط لإدارة النظام النقدي الدولي.

ترجمة: نعيمة أبروش  Translated by Naaima Abarouch

شغل جون ب. تايلور، منصب وكيل أمين عام وزارة الخزانة الأمريكية من 2001 إلى 2005، ويشغل حاليا منصب أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد، ومنصب زميل أول في معهد هوفر. وهو مؤلف كتاب Global Financial Warriors ومؤلف مشارك مع جورج. ب. شولتز لـكتاب Choose Economic Freedom.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org