اتفاق عالمي للتمويل المستدام
فابيو بانيتا
فرانكفورت – لقد تسبَّبت جائحة كوفيد-19 في أكبر انخفاض مسجل في النشاطات الاقتصادية العالمية، ولكن الانخفاض في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون كان مؤقتًا وعلى الرغم من أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية انخفضت بنسبة 6،4% بالمجمل في سنة 2020، فلقد بدأت تزداد بالفعل خلال النصف الثاني من العام وعادت الآن إلى مستويات ما قبل الأزمة.
إن حقيقة أن الظروف الاستثنائية العام الماضي لم تؤدِّ إلى جعل الانبعاثات العالمية تتوافق مع الأهداف المحدَّدة في اتفاقية باريس للمناخ لسنة 2015 هي بمنزلة تذكير قوي بحجم التحدي الذي نواجهه. وكما يذكّرنا الاقتصادي الحائز جائزة نوبل للاقتصاد ويليام نوردهاوس؛ فإنَّ التغير المناخي هو العامل الخارجي الجوهري على مستوى العالم، فتأثيراته سوف تمتد لجميع أرجاء العالم ولا يوجد أي بلد لديه حوافز أو قدرات كافية لحل المشكلة وحده. وعليه فإنَّ التنسيق العالمي يعدُّ أمرًا أساسيًّا.
لحسن الحظ فإنَّ العودة إلى التعاون متعدد الأطراف من خلال مجموعة السبع العظام ومجموعة العشرين ومجلس الاستقرار المالي هي فرصة استثنائية، وبعد قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن بالانضمام مجددًا لاتفاقية باريس والتزام الاتحاد الأوروبي بتحقيق الحياد الكربوني بحلول سنة 2050، وتعهد الصين بتحقيق الهدف نفسه بحلول سنة 2060، نكون قد وصلنا الآن إلى نقطة تحوُّل للعمل المناخي العالمي.
إنَّ هناك ثلاث أولويات رئيسة على الأجندة العالمية. أولًا، الحاجة إلى زيادة أسعار الكربون العالمية. إنَّ وضع سعر أعلى للكربون هو الطريقة الأكثر فاعلية من حيث التكلفة من أجل تخفيض الانبعاثات بالحجم والسرعة اللازمة، علمًا أنه من خلال استيعاب التكلفة الاجتماعية للانبعاثات – أي جعل المسؤولين عن الانبعاثات يدفعون – فإنَّ تسعير الكربون يستخدم قوة الأسواق لتوجيه الأنشطة الاقتصادية بعيدًا عن الأنشطة كثيفة الكربون.
حاليًّا؛ فإنَّ أسعار الكربون منخفضة جدًّا، وطبقًا لحسابات صندوق النقد الدولي فإنَّ معدل سعر الكربون العالمي هو فقط 2 دولار أمريكي لكل طن، وطبقًا للبنك الدولي فإنَّ 5% فقط من انبعاثات غاز الدفيئة يتم تسعيرها ضمن النطاق المطلوب لتحقيق أهداف اتفاقية باريس.
وهنا يمكن للاقتصادات المتقدمة أن تكون مثالًا يحتذى به، وأن تستخدم الفرصة المتاحة حالية لصنع السياسات من أجل الالتزام بمسارات لتسعير الكربون تتوافق مع اتفاق باريس، وعلى الرغم من أنَّ الاقتصادات المتقدمة الأصغر تمثِّل فقط حصة محدودة من الانبعاثات العالمية فإنَّ تبنيها لإجراءات حاسمة لإزالة الكربون يمكن أن يشجع الدول النامية على أن تحذو حذوها.
إنَّ الأولوية الثانية هي استخدام التعافي من جائحة كوفيد-19 للبناء مجددًا بشكل أفضل. فالقرارات التي سوف يتم اتخاذها الآن سوف تشكل مسار المناخ لعقود قادمة، حيث يجب على صنّاع السياسات اغتنام هذه الفرصة من أجل وضع الاقتصاد العالمي على مسار التنمية المستدامة. إن حزمة التعافي للاتحاد الأوروبي – الجيل القادم للاتحاد الأوروبي- هي تجسيد حقيقي لذلك الطموح.
الأولوية الثالثة تعدُّ جوهر النظام المالي والبنوك المركزية: تمويل التحوُّل الأخضر. إنَّ التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري يوحي بالحاجة إلى استثمار ضخم، وإن كانت تقديرات التكلفة على وجه التحديد يكتنفها الكثير من الغموض. لو نظرنا إلى ما هو أبعد من انخفاضات الانبعاثات؛ أي إلى أجندة الاستدامة الأشمل، فإنَّ الأمم المتحدة تقدّر أن تطبيق أجندة التنمية المستدامة 2030 سوف يتطلَّب استثمارات عالمية تصل إلى 5-7 تريليونات دولار أمريكي سنويًّا، ومن أجل ملء هذه الفجوة، سوف يكون من الضروري حشد موارد الوسطاء الماليين بما في ذلك البنوك.
إنَّ منتجات التمويل المستدام -مثل الإقراض الأخضر والسندات الخضراء المستدامة والصناديق ذات الخصائص البيئية والاجتماعية وتلك المتعلقة بالحوكمة- قد زادت بشكل كبير جدًّا خلال السنوات الأخيرة، ولكن للأسف فإنَّ هذا المجال يعاني من عدم تجانس المعلومات وشفافية غير كافية.
من أجل تعزيز النمو المستدام فلقد بدأت العديد من البلدان تطوير أطر تنظيمية من أجل مكافحة "التمويه الأخضر" حيث يقف الاتحاد الأوروبي في طليعة تلك الجهود ولكن في غياب التنسيق العالمي، طورّت الولايات القضائية المختلفة مقاربات مختلفة كما انتشرت المبادرات المتعلقة بالصناعات المختلفة.
لقد كانت النتيجة نظام معقد من المعايير والمقاييس والتعريفات غير المتجانسة وغير صالحة للمقارنة، مما أدى إلى تجزئة أسواق التمويل المستدام وتخفيض فعاليتها والحد من توافر رؤوس الأموال عبر الحدود لغايات الاستثمار الأخضر، وبينما تتنافس الولايات القضائية لجذب التمويل، تزداد مخاطر المراجحة التنظيمية والسباق نحو القاع، وإذا لم يتم معالجة هذا الاتجاه فإنه قد يؤدي إلى انخفاض المعايير على مستوى العالم، مما يزيد من احتمالية التمويه الأخضر.
لكن لدينا الآن فرصة للبدء في صياغة مقاربة عالمية مشتركة؛ فالتمويل المستدام يعدُّ على رأس أولويات كل من مجموعة العشرين التي تترأسها إيطاليا، ومجموعة السبع العظام التي تترأسها بريطانيا، وإضافة إلى ذلك وفي رسالة عامة بعد وقت قصير من تثبيتها في المنصب، دعت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يالين إلى رفع مستوى مجموعة عمل التمويل المستدام التابعة لمجموعة العشرين وذلك "حتى تعكس أهميتها".
إن الخطوة الأولى الرئيسة هي الاتفاق على الحد الأدنى من المعايير لغايات الإفصاح بالنسبة للشركات، فلو كان أداء الاستدامة لشركة ما غير واضح أو غير معروف فسوف يكون من المستحيل التحقق من استدامة الأصول المالية ذات العلاقة، وعليه يجب علينا استبدال الأطر الحالية المعقدة لإعداد التقارير بمعيار مشترك. وتحقيقًا لهذه الغاية تمثل مقاربة الاتحاد الأوروبي- بما في ذلك المراجعة الحالية لتوجيه تقارير الاستدامة المالية للشركات- معيارًا متقدمًا، بحيث يجب على كل معيار دولي أن يهدف لتحقيقه.
وحتى يصل المعيار المشترك إلى القمة، يجب أن يلتزم بأفضل الممارسات الدولية، بحيث يغطي جميع جوانب الاستدامة البيئية والاجتماعية وتلك المتعلقة بالحوكمة، كما يجب على هذا المعيار أن لا يفصح عن القضايا التي تؤثر في قيمة المؤسَّسة فحسب، بل أيضًا المعلومات المتعلقة بالتأثير البيئي والاجتماعي الأوسع للشركة (المعروف باسم "المادية المزدوجة").
إنَّ التحدي الثاني الأكبر هو التحقُّق من قيام البلدان بتطوير تصنيفات متجانسة لما يتم اعتباره كاستثمار مستدام، ولو تمَّ اعتبار نشاطٍ أو أصلٍ ما على أنه مستدام في بلدٍ ما ولكنه غير مستدام في بلد آخر، فإنَّ هذا يعني عدم إمكانية إقامة سوق عالمي بحق للتمويل المستدام.
حتى نتحقق من تكافؤ الفرص على المستوى العالمي، يجب أن يهدف قادة العالم للتوصُّل إلى اتفاق على المبادئ المشتركة لتصنيفات متجانسة عالميًّا وتعمل بشكل جيد، ومثلما تحتاج الحكومات لأن تهتم بمخاطر تسرُّب الكربون فإنه يجب عليها كذلك أن تأخذ بعين الاعتبار مخاطر تسرب تمويل الكربون.
أخيرًا، نحن بحاجة إلى التحقق من أن تبقى جميع قطاعات النشاط المالي متوافقة مع الأهداف المناخية الأشمل. إن استهلاك الطاقة الضخم وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بتعدين الأصول المشفرة يمكن أن يؤديا إلى تقويض جهود الاستدامة العالمية. إنَّ البتكوين وحده يستهلك بالفعل كهرباء أكثر من هولندا. يجب أن يكون التحكُّم بالتأثير البيئي للأصول المشفرة والحد منها بما في ذلك من خلال التنظيم والضرائب جزءًا من النقاش العالمي.
إنَّ التغير المناخي والاستدامة هي تحديات عالمية تتطلَّب حلولًا عالمية وخاصة في القطاع المالي. والبيئة السياسية الحالية تقدم لنا فرصة نادرة لتحقيق تقدم جوهري، حيث يجب علينا عدم تضييعها.
فابيو بانيتا، عضو في المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي.
حقوق النشر:بروجيكت سنديكت ،2021
www.project-synidcate.org