المدن وفجوة البيانات المناخية
روبرت موغا، وكارلو راتي
ريو دي جانيرو- قد يعتقد المرء أنَّ الضغوط والصدمات المناخية الكارثية التي ستواجهها المدن في السنوات القادمة، ستدفع قادتها لتنفيذ استراتيجيات التخفيف والتكيُّف. ومع ذلك، معظم سكان المناطق الحضرية على دراية بسيطة بالمخاطر؛ لأنَّ رؤساء بلديات مدنهم، ومديريها، ومجالسها، إمّا أنهم لا يجمعون المعلومات الصحيحة، وإمّا أنهم لا يحللونها.
ومع اعتماد المزيد من الحكومات استراتيجيات الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، تحتاج المدن في كل مكان إلى تحسين طريقة جمعها للبيانات المناخية وأسلوب تفسيرها. فقد وقعت أكثر من11000 مدينة بالفعل على ميثاق عالمي لمعالجة تغيُّر المناخ وإدارة الانتقال إلى الطاقة النظيفة، ويسعى عدد كبير منها إلى تحقيق صافي انبعاثات صفرية قبل نظرائها على المستوى الوطني. ومع ذلك، لا يزال جميعها تقريبًا يفتقر إلى الأدوات الأساسية لقياس التقدُّم.
وأصبح سدُّ هذه الفجوة أمرًا ملحًّا؛، لأنَّ تغيُّر المناخ يحدث بالفعل اضطراًبا في المدن في جميع أنحاء العالم. إذ تتعرَّض المدن في كلِّ قارة تقريبًا للدمار بسبب تعرُّضها لموجات الحر، والحرائق، والأعاصير والأعاصير المدارية. وتتعرَّض المدن الساحلية للفيضانات الشديدة المرتبطة بارتفاع مستوى سطح البحر. ويَجري إعادة النظر تمامًا في بعض المدن الكبرى وضواحيها المترامية الأطراف، على غِرار إندونيسيا التي اعتمدت خطة بتكلفة34 مليار دولار، تهدف من خلالها إلى نقل عاصمتها من جاكرتا إلى بورنيو بحلول عام 2024.
والأسوأ من ذلك أنه على الرغم من أنَّ العديد من الحكومات دون الوطنية تضع أهدافًا خضراء جديدة وطموحة، فإنه لا يزال أكثر من 40٪ من المدن (التي يقطنها نحو400 مليون شخص) تفتقر إلى استراتيجية جادة للتأهُّب للمناخ. وتتضاءل هذه النسبة في إفريقيا وآسيا- حيث يُتوقَّع أن يشملها، في العقود الثلاثة القادمة، 90٪ من مُجمل عمليات التوسُّع التحضري التي سيشهدها العالم في المستقبل.
إننا نعلم أنَّ خطط التأهُّب للمناخ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاستثمار في العمل المناخي، بما في ذلك الحلول القائمة على الطبيعة والمرونة المنهجية. ولكن الاستراتيجيات وحدها لا تكفي؛ إذ نحتاج أيضًا إلى توسيع نطاق منصات المراقبة التي تعتمد على البيانات. وبدعم من الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار، يمكن لهذه المِنصات تتبُّع درجات الحرارة داخل المباني وخارجها، وتنبيه سكان المدن إلى مشكلات جودة الهواء، وتوفير معلومات عالية الدقة بشأن تركيزات غازات الدفيئة المحددة (ثاني أكسيد الكربون، وثاني أكسيد النيتروجين)، والجسيمات.
وتُعدُّ شركات التكنولوجيا المحرِّكَ الأوَّل في هذا السوق. فعلى سبيل المثال، يقوم مستكشف (غوغل) للإحصاءات البيئية بتجميع البيانات المتعلقة بالانبعاثات الصادرة من عمليات البناء، وووسائل النقل، وتلك المتعلقة بجودة الهواء، وإمكانات الطاقة الشمسية وتقديمها لمسؤولي البلدية. وتُزوِّد مشاريع مثل Climate Watch، (كلايمت ووتش)،
وProject AirView، (بروجيكت إير فيو)، وProject Sunroof، (برجيكت سانروف)، وSurface Particulate Matter Network (شبكة المواد الجسيمية السطحية)، محللي المدن بالبيانات التاريخية، وتقوم بتتبُّع تلوث السيارات وتسرُّب الميثان؛ بل وحتى مساعدة فُرادى المستخدمين على تحديد إمكانات الطاقة الشمسية لمنازلهم.
بيد أنه من الجدير بالذكر أنَّ العديد من مبادرات البيانات المتعلقة بالمناخ التي يقوم بها القطاع الخاص بُنِيَت على خلفية برامج واسعة النطاق، وتحظى بدعم من القطاع العام. وأشهر مصدر لبيانات المناخ هو وكالة ناسا، التي تستخدم بيانات الأقمار الصناعية، والتشتُّت الكيميائي، ونماذج الأرصاد الجوية لتتبُّع الانبعاثات، والتنبُّؤ بحركة الملوثات. كذلك، فإنَّ الرابطة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي تتعقَّب حرائق الغابات والضباب الدخاني (من بين أشياء أخرى كثيرة)، وتصدر تنبُّؤات قائمة على البيانات من خلال المركز الوطني للتنبُّؤ البيئي التابع لها. وفي أوروبا، تولد خدمة مراقبة الغلاف الجوي (كوبرنيكوس) تنبؤات مدتها خمسة أيام بناءً على تتبُّعها للهباء الجوي وملوثات الغلاف الجوي، وغازات الدفيئة، وقراءات مؤشر الأشعة فوق البنفسجية.
وأصبحGoogle Earth (غوغل إيرث) موردًا أساسيًّا من خلال تنظيمه واستخدامه لصور تاريخية وبيانات يصل عمرها لما يزيد على أربعة عقود ومستمدة بصورة أساسية من المصادر العامة. ونظرًا إلى أنَّ القطاع الخاص كان يستفيد من هذه البيانات لسنوات، لم يعد لدى المدن أيُّ عذر تبرِّر به عدم قيامها بالشيء نفسه. إنَّ أحد مصادر البيانات على مستوى المدينة التي يسهل الوصول إليها هو نظام التنبؤ بجودة الهواء العالمي والمعلومات التابع للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، الذي يتتبَّع كلَّ شيء بما في ذلك العواصف الترابية، والتلوث الناتج عن الحرائق والدخان. والبرنامج الآخر هو منصة البيئة العالمية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، التي توفِّر تنبُّؤات عالية الدقة.
وبدأت بعض المدن الرائدة بالفعل في العمل مع موردي البيانات الأصغر مثل: PlumeLabs)) التي تقوم بتجميع البيانات المتعلقة بجودة الهواء من خلال أجهزة الاستشعار الموزعة محليًّا. ولكن تمامًا كما هو ضروري الوصول إلى البيانات، فإنَّ الأساليب التي تجعلها مفيدة هي أيضًا كذلك. وكما تبدو عليه الأمور حاليًّا، غالبًا ما تكون مجموعات البيانات مجزَّأة عبر المنصات، وحتى عندما يتفّق قادة المدن على أنَّ حالة الطوارئ المناخية تستدعي اهتمامهم، فإنَّ اكتساب المعرفة من التفاصيل يبقى تحديًّا صعبًا. إذ تقوم المدن بتوليد مجموعة من البيانات المناخية، ولكن لا يزال يتعيَّن عليها أن تجعلَها متَّسِقة.
وسيتطلَّب بناء نظام بيئي مُتسق فيما يتعلق بالبيانات المناخية منصة يسهل الوصول إليها لتوحيد المقاييس المتباينة. وتحتاج البيانات أيضًا إلى أن تُبَسَّط وتُوَحَّد لتحسين مراقبة المدخلات، والمخرجات، والنتائج، والتأثير. وستعمل الإدارة الأفضل للبيانات على تحسين عملية صنع القرار، وتمكين المواطنين العاديين، مما قد يؤدي إلى تعزيز التعاون وحتى المنافسة الإيجابية بين المدن. ويمكن أن يكون للشراكات العامة والخاصة والخيرية تأثير محفز، كما حَدث عندما انضمت مدن مثل أمستردام، وبريستول، وشيكاغو، ولوس أنجلوس إلى مجموعةSecDev (سيكديف) لإنشاء لوحة معلومات تفاعلية تقوم بتتبُّع نقاط الضعف في المدينة.
ومع ذلك، هناك بعض المخاطر المتعلقة بتجميع البيانات المناخية للمدن وبِتوحيدها؛ إذ عندما يغمر بائعو التكنولوجيا العالميين السوق، يمكنهم كبح الابتكار المحلي في جمع البيانات وتحليلها. وفضلًا عن ذلك، من خلال التركيز كثيرًا على مجموعة صغيرة من المقاييس بالنسبة لكل مدينة، فإننا نجازف بقانون (غودهارت) الذي يقول: بمجرد أن يصبح المقياس هدفًا، يبدأ الناس في التلاعب به. خذ على سبيل المثال الأهداف المصمَّمة لتقليل انبعاثات السيارات التي تؤدي إلى إنتاج سيارات مصمَّمة لاجتياز اختبارات الانبعاثات، بدلاً من السيارات ذات الانبعاثات المنخفضة.
كذلك، عندما تكون البيانات المناخية أكثر مركزية، يمكن أن تكون هناك حوافز أكبر للمصالح السياسية والشركات لجعلها لصالحها، من خلال ممارسة الضغط واستخدام وسائل أخرى. وسيحتاج صانعو السياسات إلى ضمان الحفاظ على خصوصية أي بيانات يحتمل أن تكون حسَّاسة أو فردية، وحمايتها، وأنَّ مجموعات البيانات والخوارزميات التي تغذيها تتجنَّب إعادة إنتاج التحيُّزات الهيكلية والتمييز.
ويمكن تحديد معظم هذه المخاطر في وقت مبكِّر، وتجنُّبها من خلال التجارب، حيث تقوم المدن بتتبُّع استراتيجيات فريدة، ومقاييس جديدة واعدة. ولكن ما لم تقم المدن بتوسيع النُّظُم التي تعتمدها في رصد البيانات وجمعها، فلن يكون لديها فرصة تُذكَر لتحقيق أهدافها المناخية. ويمكن أن يساعد التحليل الأفضل في زيادة الوعي بمخاطر المناخ، وتحسين الاستجابات، وضمان أن تكون استراتيجيات التخفيف، والتكيف أكثر إنصافًا. ولا يمكننا إدارة أزمة المناخ حتى نقيسها، ولا يمكننا قياسها حتى نتمكَّن من جمع المعلومات الصحيحة وتحليلها.
ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch
روبرت موغا، أحد مؤسِّسي معهد إيغاربي ومجموعة SecDev، وعضو في مجلس المستقبل العالمي لمدن الغد التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي، ومستشار لدى تقرير المخاطر العالمية. كارلو راتي، مديرSenseable City Lab في معهد مساشوستس للتكنولوجيا، هو المؤسِّس المشارك لمكتب التصميم والابتكار الدولي Carlo Ratti Associati.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org