المناخ ضد الرأسمالية

جان بيساني فيري

باريس ــ لا يترك أحدث تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أي مجال للشك: سوفي يستمر الانحباس الحراري الكوكبي حتى عام 2050 على الأقل، حتى لو انخفضت الانبعاثات الغازية المسببة له بشكل كبير في العقود المقبلة. وإذا جرى خفضها ببطء شديد، فإنَّ هذا النوع من موجات الحرارة، والجفاف، والأمطار الغزية، والفيضانات، الذي شهدناه هذا الصيف سيصبح أكثر تواترًا. ولا يمكننا استبعاد المزيد من النتائج الكارثية، مثل التغيرات المفاجئة التي لا رجعة فيها في دورة المحيطات.

ما يدعو إلى التفاؤل أنَّ عامة الناس أصبحوا مقتنعين على نحو متزايد بإلحاح هذه المشكلة. يشير استطلاع للرأي أجرته الأمم المتحدة أخيرًا إلى أنَّ ما يقرب من ثلثي الأشخاص في خمسين دولة يعتبرون تغيُّر المناخ حالة طارئة. السؤال إذن هو ماذا يترتَّب على العمل المناخي من نتائج. كيف قد يؤثر في الدخل، والوظائف، وظروف المعيشة؟ الواقع أنَّ أغلب المواطنين لا يعرفون ببساطة، لأنَّ ما يقدَّم لهم من مناظير للمستقبل شديد التناقض.

من ناحية، يثق المتفائلون بالتكنولوجيا بأنَّ الإبداعات والابتكارات الخضراء الجديدة من الممكن أن تقطع شوطًا طويلًا نحو حل المشكلة. تتسم رؤيتهم للمستقبل بالبساطة: فسوف نقود سيارات كهربائية بدلًا من سيارات البنزين، ونسافر في قطارات عالية السرعة بدلًا من ركوب الطائرات، ونسكن في منازل محايدة كربونيا. ربما يضطر الأثرياء إلى التخلي عن الاستمتاع بالإجازات والعطل في قارات أخرى، لكن أساليب حياة الآخرين جميعهم تقريبًا ستظلُّ محفوظة في الأساس.

من ناحية أخرى، يصور المشككون في النمو التحول إلى الحياد الكربوني على أنه تغير أساسي من شأنه أن ينهي عقودًا من التوسع الاقتصادي الذي يدفعه المستهلك. سندخل حقبة جديدة يمكن اعتبارها "ما بعد النمو" أو قد تتسم حتى "بتراجع النمو". وسوف تحل الجودة محل الكم، والتفاعل الاجتماعي محل الاستهلاك المادي.

يشترك كلا المعسكرين في هدف الحد من الانبعاثات. لكن بينما يثق المتفائلون بالتكنولوجيا بقدرة الرأسمالية الخضراء على دفع التحول الاقتصادي، يشير المشككون إلى أنَّ النمو إدمان مدمر، ولا يمكن علاجه إلا بكبح جماح السلوك الخاص المسرف. وهم يرون أنَّ المعركة ضد تغير المناخ هي في حقيقة الأمر معركة ضد الرأسمالية ذاتها.

يميل أهل الاقتصاد إلى تأييد المتفائلين بالتكنولوجيا. في عام 2009، لاحظ دارون عاصم أوغلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وفيليب أجيون من كوليج دو فرانس، ومؤلفون آخرون مشاركون، أنَّ التقدم الفني كان منحازًا بشكل كبير نحو التكنولوجيات البنية (الكثيفة الاستخدام للكربون). وقد أشاروا إلى أنَّ إعانات الدعم الحكومية، والضوابط التنظيمية، وتسعيرات الكربون، من شأنها أن توجّه الإبداع نحو تكنولوجيات أكثر نظافة، مما يجعل النمو الأخضر متزايد الكفاءة. جرى إثبات هذه التنبؤات بفعل انهيار تكلفة الطاقة المتجددة. يلاحظ أدير تيرنر، رئيس لجنة تحولات الطاقة، أنَّ الطاقة الخضراء أصبحت في العديد من البلدان النامية بسرعة كبيرة أرخص من طاقة الوقود الأحفوري. وينطبق ذات الأمر على البطاريات الكهربائية.

السبب هو أنَّ الرأسمالية بدأت تتحوَّل باتجاه السلوكيات الخضراء، مع تزايد عدد الشركات التي تستثمر في كونها جزءًا من المستقبل الأنظف. فالآن، تقدر قيمة شركة تسلا بسبع مرات أعلى من شركة جنرال موتورز، على الرغم من أنها باعت سيارات أقل بنحو 14 مرة في عام 2020. مع ذلك، تظل الرأسمالية البنية باقية وتناضل من أجل البقاء. كما كانت الحال عندما اندلعت حرب حامية الوطيس بين المصالح الزراعية والصناعية في القرن التاسع عشر، فإنَّ المعركة الحاسمة اليوم لا تدور بين النشطاء في مجال المناخ والرأسمالية، بل بين فرعين من الرأسمالية.

هذه أنباء طيبة. لكن الأمر لا يخلو من دواع لتوخي الحذر. فأولًا، حتى لو بادرت التكنولوجيا إلى إنقاذ المجتمع الاستهلاكي، فسوف يظل لزامًا على الناس أن يغيروا أنماط حياتهم. ولأنَّ العديد من مساكن الضواحي الكثيفة الاستهلاك للطاقة من غير المرجح أن تجتاز اختبار الحياد الكربوني، فقد تتحول إلى أصول عالقة. وسوف يمثل هذا مشكلة للأسر التي تتمثل أصولها الرئيسة في ملكية المساكن الحالية. على نحو مماثل، سيعمل التحول العميق في الأنظمة الغذائية التي تعتمد على اللحوم بشكل كثيف على تعطيل تقاليد زراعية وغذائية تعود إلى آلاف السنين.

لذا فإنَّ المتشككين محقون عندما يقولون إن التكنولوجيا ليست حلًّا سحريًّا. ورغم أنه من قبيل الهراء أن نتصوَّر أنَّ تراجع النمو قد يكون حلًّا لمشكلة المناخ، فمن المنطقي على المستوى النفسي تنبيه الناس إلى أنَّ بعض التغيرات السلوكية ستكون ضرورية.

يكمن السبب الثاني وراء ضرورة توخي الحذر في حقيقة مفادها أنَّ تكاليف الانتقال ستكون ضخمة حتى لو تبيَّن أَّن التكنولوجيات الخضراء أصبحت أقل تكلفة من الأساليب التقليدية. فبعد المماطلة والتسويف لفترة طويلة للغاية، أصبحنا الآن في مواجهة تغير مفاجئ وسريع. الأمر ببساطة أنَّ حصة كبيرة من المخزون الحالي من رأس المال ــ المباني والآلات والمركبات ــ يجب التخلص منها واستبدالها قبل بلوغها نهاية عمرها الاقتصادي. ليس من المهم ما إذا حدث هذا التخلص التدريجي نتيجة لتسعير الكربون أو فرض قيود تنظيمية أشد صرامة على الانبعاثات. ففي الحالين، ستنشأ الحاجة إلى استثمارات أكبر للحفاظ على ذات المستوى من الناتج.

يصف أهل الاقتصاد التقادم المفاجئ للمخزون من رأس المال على أنه صدمة عرض سلبية، لأنَّ تأثيره الاقتصادي الرئيس يتمثَّل في تقليل الناتج المحتمل (بشكل مؤقت على الأقل). صيغ هذا التعبير في سبعينيات القرن العشرين في محاولة لتفسير الارتفاع المفاجئ في أسعار النفط. وتشير الحسابات التقديرية إلى أنَّ الصدمة التي تنتظرنا في العقد المقبل ستكون على ذات القدر من الجسامة.

الواقع أنَّ اقتران انخفاض الناتج المحتمل بالاستثمار المتزايد ــ الذي يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لعدة تقديرات ــ يعني ضمنًا أنَّ رفاهة المستهلك ستتضرر. بتعبير أكثر دقة، ستتضاءل في الأمد القريب وتتحسن في الأمد البعيد، كما يحدث عندما ينظم بلد ما حشدًا عسكريًّا للحفاظ على أمنه. كما سَـتُـفـقَـد الوظائف في القطاعات التقليدية التي تعتمد على الكربون بكثافة؛ لكن وظائف أخرى سَـتُـخـلَـق في الصناعات المحايدة كربونيا. مرة أخرى، سينطوي هذا على تكاليف انتقالية كبيرة: فمن غير الممكن أن يتحوَّل عمال سباكة المعادن على الفور إلى خبراء في عزل المباني.

ينبغي للقادة السياسيين أن يتحروا الصدق والنزاهة بشأن ما هو قادم. كان الرئيس جو بايدن مضللًا بعض الشيء عندما تحدث عن "فرصة لخلق الملايين من وظائف الطبقة المتوسطة المجزية"، تمامًا كما كانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عندما اقترحت أنَّ الصفقة الخضراء الأوروبية تمثل "استراتيجية نمو جديدة" في أوروبا. كل منهما محق في الحديث عن مستقبل مشرق، لكنه أخطأ عندما تغافل عن ذكر حقيقة تدمير بعض الوظائف وتضاؤل الرخاء والازدهار على طول الطريق.

يدرك المواطنون مدى إلحاح العمل المناخي، ولكن تظل رغم ذلك حالة من عدم اليقين تهيمن على فهمهم لتداعياته. ما يحتاجون إليه هو الوضوح وليس الوعود الحالمة. إنَّ أفضل طريقة لإقناع الناس باحتضان جهود إزالة الكربون ليست التقليل من شأن تحديات المستقبل، بل تتمثل في وصف هذه التحديات بدقة وشرح كيفية معالجتها.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

جان بيساني فيري كبير زملاء المركز البحثي الفكري "بروجل" في بروكسل، وكبير زملاء غير مقيم في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، ويشغل كرسي توماسو بادوا شيوبا في معهد الجامعة الأوروبية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org