الاقتصاد في حاجة إلى ثورة مناخية
توم بروكس وغيرنوت واغنر
بروكسل/نيويورك- تتضح قيود التفكير الاقتصادي الكلاسيكي الجديد، أوبعبارة أخرى، الحمض النووي للاقتصاد كما يُدَرس ويمارس حاليًّا- أكثر أثناء مواجهة أزمة المناخ. ورغم أنَّ هناك أفكارًا ونماذج جديدة، فإنَّ المعتقدات القديمة لا تزال راسخة بعمق؛ فالتغيير لا يمكن أن يحدث بالسرعة الكافية.
لقد أخفق علم الاقتصاد في فهم أزمة المناخ، فما بالك أن يوفّر حلولاً سياسية فعّالة لها؛ وذلك لأنَّ معظم خبراء الاقتصاد غالبًا ما يُقسمون المشكلات إلى أجزاء صغيرة يمكن التعامل معها. وهم اعتادوا على قول إنَّ الأشخاص العقلاء يفكرون في الخطوة القادمة. وما يهم ليس متوسط أو مجمل ما يقوم به الفرد، بل الخطوة التالية التي يتم الموازنة بينها وبين البدائل العاجلة.
إنَّ تفكيراً كهذا هو في الواقع عقلاني عندما يتعلق الأمر بمشكلات صغيرة منفصلة؛ فالتقسيم ضروري لإدارة الطلب المتنافس على وقت المرء واهتمامه. ولكن هذا التفكير غير مناسب لمشكلة تستهلك كل شيء وتمس كل جانب من جوانب المجتمع.
وغالبًا ما يساوي خبراء الاقتصاد أيضًا العقلانية بالدقة. وتكمن سلطة هذا التفكير على الخطاب العام وصنع السياسات في ادعائه الضمني بأن أولئك الذين لا يستطيعون حساب الفوائد والتكاليف الدقيقة، هم بطريقة أو بأخرى غير عقلانيين. ويسمح هذا لخبراء الاقتصاد- ونماذجهم- بتجاهل مخاطر المناخ وأوجه عدم اليقين المنتشرة على نطاق واسع، بما في ذلك إمكانية حدوث نقاط تحول مناخية، واستجابات مجتمعية لها. وعندما يفكِّر المرء في هوس خبراء الاقتصاد بنماذج التوازن، يصبح عدم التوافق بين تحدي المناخ والأدوات الحالية لهذا التفكير صارخًا لدرجة لا يمكن تجاهله.
نعم، العودة إلى التوازن- العودة إلى الوضع الطبيعي- هو ما يفضله عدد كبير جدًّا من البشر. ولكنها تتنافى مع ما هو مطلوب تماماً، ألا وهو التخلص التدريجي السريع من الوقود الأحفوري، من أجل تحقيق الاستقرار في مناخ العالم.
وتنعكس هذه القيود في تحليلات الفوائد والتكاليف لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وغازات الدفيئة الأخرى؛ إذ يقترح التفكير التقليدي مسارًا بطيئًا لخفض ثاني أكسيد الكربون. ويبدو المنطق مقنعًا؛ فعلى أي حال، يتم تكبد تكلفة الضرر الناجم عن تغير المناخ في المستقبل، في حين أن تكبد تكاليف العمل المناخي يحدث اليوم. والحكم الحائز على جائزة نوبل هو أنه يجب علينا تأجيل الاستثمار الضروري في اقتصاد منخفض الكربون لتجنب الإضرار بالاقتصاد الحالي عالي الكربون.
وللتوضيح، فقد أظهر جزء كبير من التفكير الجديد أنه حتى المنطق التقليدي سيتطلب المزيد من العمل المناخي بصورة ملحوظة الآن، لأنَّ التكاليف غالبًا ما يتم المبالغة في تقديرها بينما يتم التقليل من الفوائد المحتملة (حتى لو كانت غير مؤكدة). ولا بدَّ أن يمرَّ الباحثون الشباب الذين يطورون هذا العمل بمرحلة حرجة، لأنهم لا يستطيعون نشر ما يعتقدون أنه أفضل عمل لهم (استنادًا إلى أكثر الافتراضات التي يمكن الدفاع عنها)، دون التذرع بالنموذج الكلاسيكي الجديد الذي عفا عليه الزمن لإثبات صحة الأفكار الجديدة.
إنَّ بنية الاقتصاد الأكاديمي بحد ذاتها تضمن استمرار سيطرة التفكير التقليدي. والطريقة الأكثر فاعلية لإدخال أفكار جديدة في الأدبيات الأكاديمية التي استعرضها الأقران، هي اتباع شيء مشابه لقاعدة: 80/20 تمَسَّك بالنص المعتمد في أغلب الأحيان؛ لكن حاول أن تتجاوز القواعد عن طريق التحقيق في افتراض واحد مشكوك فيه في كل مرة. ولا داعي للقول إنَّ هذا يجعل تغيير الإطار المرجعي العام صعبًا للغاية، حتى عندما يتطلع أولئك الذين ساعدوا على وضع وجهة النظر المتعارف عليها إلى ما هو أبعد من ذلك.
كينيث جيه آرو، على سبيل المثال، الذي تقاسم جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1972 لإظهاره كيف يمكن للإجراءات التقليدية التي يتخذها الأفراد المهتمون بمصالحهم الشخصية أن تحسن الرفاهية المجتمعية. وعزَّز هذا العمل الرائد التفكير القائم على التوازن لدى خبراء الاقتصاد. ولكن (أرو) عاش 45 عامًا أخرى، وقضى ذلك الوقت في تجاوز عمله السابق. ففي ثمانينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، كان له دور فعّال في تأسيس معهد (سانتا في)، وهو مكرس لما أصبح يعرف منذ ذلك الحين باسم علم التعقيد- وكانت محاولة منه لتجاوز التفكير القائم على التوازن الذي ساعد على تأسيسه.
ونظرًا لأنَّ التفكير القائم على التوازن يدعم النماذج الاقتصادية المناخية التقليدية التي طُورت في التسعينيات من القرن الماضي، تفترض هذه النماذج أنَّ هناك مفاضلات بين العمل المناخي والنمو الاقتصادي. فهي تتخيَّل عالماً ينزلق فيه الاقتصاد ببساطة على مسار التقدم البانغلوسي. وقد تظلُّ سياسة المناخ جديرة بالاهتمام، ولكن فقط إذا كنّا على استعداد لقبول التكاليف التي ستدفع الاقتصاد عن المسار الذي اختاره.
وعلى خلفية هذا الرأي التقليدي، فإنَّ التصريحات الأخيرة لصندوق النقد الدولي ووكالة الطاقة الدولية تكاد تكون ثورية. فقد خلصت كلتا المؤسستين الآن إلى أنَّ العمل المناخي الطموح يؤدي إلى تزايد النمو وعدد الوظائف حتى في المدى القريب.
والمنطق واضح: نسبة الوظائف التي تخلقها سياسات المناخ في قطاعات الطاقة النظيفة تفوق نظيرتها التي تفقد في قطاعات الوقود الأحفوري، مما يذكرنا بأنَّ الاستثمار هو الوجه الآخر للتكلفة. وهذا هو السبب في أنه من المتوقع أن يؤدي اقتراح حزمة بنية تحتية بقيمة تريليوني دولار في الولايات المتحدة إلى تحفيز صافي النشاط الاقتصادي والعمالة. وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو اكتشاف أن تسعير الكربون وحده يقلل على ما يبدو من الانبعاثات دون الإضرار بالوظائف، أو النمو الاقتصادي الكلي. وتكمن مشكلة ضرائب الكربون أو مقايضة الانبعاثات في أنَّ سياسات العالم الحقيقي لا تقلل الانبعاثات بالسرعة الكافية، لذلك، ستحتاج إلى دعم من خلال التنظيم.
لا يوجد عذر للاستمرار في التمسك بنموذج فكري خدمنا بشدة لفترة طويلة. لقد استخدمت النماذج التقليدية لرفض السياسات التي كان من الممكن أن تساعد على عكس المسار قبل سنوات عديدة، عندما كان ممكناً معالجة أزمة المناخ من خلال إحداث تغييرات هامشية في النظام الاقتصادي الحالي. والآن، لم تعد لدينا القدرة على قبول التغيير التدريجي.
وما يبعث على السرور هو أنَّ التغيير السريع يحدث على الصعيد السياسي، لأسباب أهمها تقلص تكلفة العمل المناخي. ومما يؤسف له أنَّ إطار الاقتصاد الكلاسيكي الجديد لا يزال يعيق التقدم. لقد آن الأوان أن يحدِث هذا النموذج نقطة تحوُّل نحو أنماط جديدة من التفكير تتناسب مع تحدي المناخ.
ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch
يشغل (توم بروكس) منصب المدير التنفيذي للاتصالات الاستراتيجية في مؤسَّسة المناخ الأوروبية. ويشغل (غيرنوت واغنر) منصب أستاذ مساعد إكلينيكي للدراسات البيئية بجامعة نيويورك.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org