المناهج والعلوم المتطورة والفكر المنفتح.. أعمدة تقدم المجتمعات
نيكولاس ب ديركس
في السنوات الأخيرة وخاصة خلال جائحة «كوفيد 19» تصاعدت الهجمات على العلم والعلماء حتى وصلت إلى درجة تُنذر بالخطر. لقد ناشد المسؤولون الصحيون والمجتمع العلمي بشكل عام صناع السياسات العامة أن «يتبعوا العلم». لكن مثل تلك الشعارات لم تجد لها آذاناً صاغية لدى أولئك الذين ليس لديهم الكثير من الاعتبار للمجتمع العلمي لأسباب ليس أقلها أن أنصار العلم يستخدمون نفس المصطلح الشامل الذي يستخدمه أولئك الذين يهاجمونه.
عندما نجمع كل أشكال العلم في كلمة واحدة، فإننا بشكل ضمني نساوي بين العلم والحقيقة، وفي واقع الأمر فإن العديد من المجالات العلمية لا تزال تخضع لمراجعة مستمرة. إن أهمية هذا التمييز كان واضحاً جداً خلال المراحل المبكرة من الجائحة عندما تم الطلب من السلطات الصحية تقديم الإرشادات للعامة قبل أن تُعرف جميع التفاصيل عن الفيروس.
لقد كان العلم على الدوام عُرضةً للهجوم، ومن إثبات جاليليو أن الأرض ليست هي مركز الكون إلى حجة داروين بأن البشر ينحدرون من القردة الأوائل، كان دائماً يُنظر للعلماء كتهديد للسلطة الدينية وادعاءاتها الخاصة بالمعرفة الحقيقية.
قد يعتقد المرء أن الحداثة كانت ستمنح العلم أخيراً ميزة لا لبس فيها مما يؤدي إلى قبول أكيد وعلى نطاق واسع لنتائجه، لكن هذه العملية التي تتطور باستمرار ليست منافساً أكيداً لهؤلاء الذين يتاجرون بالأشياء المطلقة الأبدية، وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو غير بديهي، بعد أن مررنا بفترة الجائحة العصيبة، فإن على العلماء أنفسهم مقاومة التوصيف الشعبي للعلم كمجموعة من المعارف.
يجادل عالم الاجتماع جيل ايال في كتابه لسنه 2019 «أزمة الخبرة» أن جاذبية «العلم» والذعر الأخلاقي من «الهجوم على العلم» هما خارج الموضوع؛ وذلك نظراً لأنه في واقع الأمر ليس كل «العلم» يتعرض للهجوم، فلا يوجد أحد، على سبيل المثال، «يجادل في ميكانيكا الكم كما لا يتعرض أي تخصص في فيزياء الحالة الصلبة للهجوم كذلك»، وفي واقع الأمر يُنظر إلى معظم العلوم على نطاق واسع بانها «راسخة».
ومع ذلك وفي حين أن معظم الناس يثقون بالمهنيين الطبيين في كل شيء بدءاً من الفحوصات السنوية إلى علاجات السرطان المتعلقة بحالتهم، فإنهم يؤمنون أيضاً بمجموعة واسعة من المفاهيم الخاصة بهم حول الصحة والأدوية والإجراءات الطبية. ينعكس ما يسميه الصحفي العلمي مايكل سبكتر «الإنكار» في مجموعة واسعة من القضايا الطبية الحيوية، وذلك من الخوف من اللقاحات إلى الإيمان بفعالية المكملات الغذائية وأحياناً العلاجات المعجزة.
يشير ايال إلى أن معظم النقاشات حول العلم تتعلق «بما يسمى» العلوم التنظيمية «و» العلم المرتبط بالسياسات، وهي مجموعة من التخصصات الفرعية وبرامج الأبحاث والتقنيات التي تشترك في الحاجة إلى تقديم توصيات بشأن السياسات، وعادة ما تحتدم تلك النقاشات عندما تكون هناك قضايا مثيرة للجدل ترتبط بالسياسات العامة، والتي ترتبط بدورها بشكل وثيق بالعلم الحالي.
وفي كل هذه الحالات تنشأ المخاطرة بعد أن يوضّح الخبراء وجهات نظرهم، وكثيراً ما تبدأ المتاعب عندما تنتقل العملية إلى مجالات خارجة عن نطاق الأمور العلمية البحتة - النزاعات القانونية، والسياسة العامة، وحتى السياسة الانتخابية -. عندما يُنظر إلى الخبرة على أنها مرتبطة بطرف واحد من أطراف الإجراءات القانونية والمناقشات السياسية والمسائل الثقافية (مثل النظام الغذائي وأسلوب الحياة)، فإن هذا التصور يميل إلى تقويض سلطة العلم والعلماء بشكل عام بدلاً من دعمها.
تكمن المعضلة في أن المجالات العلمية الأكثر صلة بالمناقشات المتعلقة بالسياسات تخضع باستمرار للاختبار والمراجعة والنقاش من قبل العلماء أنفسهم، علماً أن هذا هو التصرف الصحيح.
على الرغم من أهمية ضمان تقدم العلم بشكل منهجي، يجب علينا أيضاً ألا نغفل عن الاحتمالات التي قد تُفتح أمامنا وذلك من خلال التفكير خارج الصندوق، علماً أنه تاريخياً فنحن مدينون ببعض أهم الاكتشافات العلمية للتألق الإبداعي لأصحاب الرؤى مثل جاليليو وداروين وألبرت أينشتاين وجيمس واتسون وفرانسيس كريك وجنيفر دودنا (الحائزة جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020 لعملها فيما يتعلق بالتحرير الجيني).
وكما يتطلب العلم الجيد توازناً بين الإبداع والمنهج، فإن بناء الثقة في العلم يتطلب من العلماء والمدافعين عنهم من القطاع العام إيصال نتائجهم وعملياتهم إلى الناس بشكل أكثر فعالية وهذا يتضمن الصراحة بشأن أوجه عدم اليقين - والصدفة - المتأصلة في الاكتشاف العلمي وتحديد الفرق بشكل واضح بين ما يعتبر علماً راسخاً وما لا يعتبر كذلك.
يجب علينا أن نتقبل وأن نحث الناس على أن يتقبلوا كذلك بأن الفضل بالنسبة لأعظم إنجازات العلم لا يعود لتوسعه الدائم نحو آفاق جديدة فحسب، ولكن أيضاً لتواضعه الدائم، وبخلاف ذلك سيظل الناس يشعرون بخيبة أمل - والإحباط - من أنواع عديدة من الادعاءات العلمية.
* رئيس سابق لجامعة كالفورنيا، بيركلي ويعمل حالياً كرئيس ومسؤول تنفيذي لأكاديمية نيويورك للعلوم