وقف جائحة السعي وراء الربح

أندريس كونستانتين

واشنطن، العاصمة ــ مضى أقل من عامين منذ دخلت عبارات مثل "تسطيح المنحنى"، و"تتبع المخالطين"، و"التباعد الاجتماعي"، وعبارات أخرى كثيرة مرتبطة بجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) إلى المعجم وأصبحت جزءًا من التواصل اليومي. الواقع أنَّ ما تعلمه الناس في كل مكان عن علم الأوبئة، وعلم الفيروسات، وعلم المناعة، يتجاوز كلَّ توقعاتهم حول ما قد يتسنّى لهم أن يتعلموه عنها.

ولكن على الرغم من الاهتمام المتزايد بالصحة العامة، لا يستطيع سوى قِـلة من الناس تسمية السبب الرئيس للوفاة. وهذا ليس من قبيل المصادفة.

تتسبَّب الأمراض غير المعدية، وخاصة أمراض القلب، والسكتة الدماغية، والسرطان، والسكري، في أكثر من 40 مليون وفاة سنويًّا، هذا فضلًا عن إجهاد أنظمة الرعاية الصحية، وفرض تكاليف اجتماعية واقتصادية باهظة. لكن القدر الذي تحظى به من الاهتمام لا يقرب حتى من ذلك الذي تجتذبه الأمراض المعدية مثل كوفيد-19، برغم أنَّ الوقاية منها مـمكـنة إلى حدٍّ كبير.

كان من المعروف منذ فترة طويلة أنَّ ممارسات مثل تعاطي التبغ ومعاقرة الكحول، وتناول الأغذية الغنية بالدهون، والصوديوم، والسكريات تزيد من وتيرة الإصابة بالأمراض غير المعدية. ولكن على الرغم من بعض التقدم في السنوات الأخيرة، وخاصة في الحد من تعاطي التبغ، فإنَّ عوامل الخطر هذه لا تحظى بالقدر الذي تستحقه من الاهتمام في المناقشات حول العالم. يرجع هذا جزئيًّا إلى أنَّ الشركات التي تصنع هذه المنتجات وتروِّج لها وتبيعها تلعب دورًا رئيسًا في تشكيل الكيفية التي ينظر بها عامة الناس إلى الأمراض غير المعدية.

الواقع أنَّ شركات التبغ والكحول والأغذية لها تاريخ طويل من التهوين من التأثيرات التي تخلفها منتجاتهم على الصحة العامة. ومنذ بداية الجائحة، استغلت هذه الشركات حملات التسويق المرتبطة بجائحة كوفيد-19 ومبادرات المسؤولية الاجتماعية الشركاتية لتحويل انتباه الرأي العام.

جمعت دراسة شملت 18 دولة، وأجريت في الفترة من مارس/آذار إلى يوليو/تموز 2020، أكثر من 280 مثالًا للطرق التي استغلت بها شركات مثل كوكاكولا، وماكدونالدز، وبيبسيكو، طوارئ الصحة العامة لتسويق منتجات غير صحية بين الفئات المستضعفة من السكان. في البرازيل، تبرعت نستله ودانون بأطعمة مـعالَـجة بإسراف لبرنامج حكومي لتوفير الغذاء للسكان من ذوي الدخل المنخفض. وأسهمت شركة كوكاكولا بمشروباتها السكرية في طرود الطعام في جنوب إفريقيا. وروَّجت شركة البينا الكولومبية لصناعة المواد الغذائية بمنتجاتها من لبن الزبادي العالي السكر باعتباره ضروريًّا لتحسين الجهاز المناعي.

على نحو مماثل، وفقًا لتقرير حديث، استخدمت شركات التبغ أنشطة المسؤولية الاجتماعية الشركاتية المرتبطة بالجائحة لتوسيع نطاق الوصول إلى كبار المسؤولين الحكوميين وإصلاح صورتهم العامة. في أحد الأمثلة الوقحة، تبرعت شركة فيليب موريس إنترناشيونال بأجهزة مساعدة التنفس لمستشفيات في اليونان وأوكرانيا.

إنَّ عدم اتساق النظام الذي يعمل يدًا بيد مع بعض من أكبر المساهمين في انتشار الأمراض غير المعدية، في حين يحاول الاستجابة لجائحة كوفيد-19 يجب أن يستفزَّ غضب الرأي العام. لكن هذه الأنشطة مرَّت إلى حد كبير دون أن يلاحظها أحد أو ينتبه إليها.

صحيح أنَّ الشركات تدخَّلت في بعض الحالات لتسليم السلع أو الخدمات التي فشلت الحكومات في توفيرها. لكن عجز الدولة عن سد هذه الثغرات لا يجب أن يسمح للشركات بتبييض الأضرار التي تتسبَّب في إحداثها. عندما تتمكَّن شركات التبغ أو الأطعمة الكبرى من التأثير على الحكومات بالتبرعات الغذائية أو المعدات الطبية وغير ذلك من مبادرات حسن النوايا التي تحظى بتغطية إعلامية مكثفة، تُـصـبِـح جهود الصحة العامة لمكافحة الأمراض غير المعدية بلا جدوى.

قامت منظمة الصحة العالمية أخيرًا بتوثيق مساهمة الشركات في النتائج الصحية الهزيلة واتساع فجوات التفاوت في مختلف أنحاء العالم. للتصدي لجائحة الأمراض غير المعدية، يجب أن يخضع تأثريها على صنع السياسات للتنظيم الصارم. ويتعيَّن على الحكومات أن تفي بالتزامها بحماية مواطنيها من الأنشطة الضارة التي تزاولها أطراف ثالثة ــ بما في ذلك صناعات الأغذية والمشروبات والتبغ المتعددة الجنسيات. ويرقى الفشل في مراقبة أنشطة هذه الشركات إلى مستوى انتهاك حق مواطنيها الأساسي في الصحة.

تقدِّم لنا تجربة شركات التبغ الكبرى بعض الأفكار حول الكيفية التي يستطيع المجتمع الدولي من خلالها التعامل مع تدخل الصناعات في الصحة العامة. في أعقاب اعتماد الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2005، أدركت الحكومات في مختلف أنحاء العالم أنَّ صناعة التبغ كانت ضالعة في جهود متضافرة لتقويض وتخريب محاولات مكافحة التبغ، وتبنَّت بعض البلدان تدابير لمعالجة المشكلة.

في ضوء التكتيكات التي وظفتها الشركات أثناء جائحة كوفيد-19، يجب اعتماد تدابير قانونية لمقاومة تطبيع الأنشطة التي تقدم من خلال تنكرها في هيئة مظاهر "المسؤولية الاجتماعية" فوائد قصيرة الأجل للمجتمعات، والتي تأتي على حساب الصحة العامة. ويتعين على الحكومات أن تعمل ليس فقط على ضمان رفع مستوى الوعي العام بالأضرار التي يحدثها التبغ والكحول والأطعمة غير الصحية؛ بل يتعيَّن عليها أيضًا أن تعكف على وضع تدابير للحد من تفاعل صنّاع السياسات مع هذه الصناعات.

على حد تعبير المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم جيبريسوس أخيرًا، "إذا كان التبغ فيروسا، لكنّا أطلقنا عليه وصف الجائحة منذ زمن بعيد وكان العالم ليحشد كل الموارد لمنعه من الانتشار. لكنه في حقيقة الأمر صناعة قيمتها مليارات الدولارات تتربح من الموت والمرض". وينطبق تعليقه هذا بذات القدر على منتجات أخرى تسهم في انتشار الأمراض غير المعدية.

يتعيَّن على الحكومات أن تتخذ تدابير حاسمة لمقاومة الدور الذي يلعبه القطاع الخاص في تقويض الصحة العامة. وحتى عندما تتدخّل الشركات لمساعدة المجتمع، ينبغي للمسؤولين أن يضمنوا أنَّ هذه المساعدة لا تعالج مشكلات بخلق مشكلات جديدة.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

أندريس كونستانتين شريك مبادرة الأسر الصحية، والقائم بأعمال المدير المساعد لبرامج ماجستير القانون في قوانين الصحة في معهد أونيل، وأستاذ القانون المساعد في جامعة جورج تاون.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org