إيجاد الهدف من العلوم الإنسانية

نيكولاس أجار

 

اديليد- إنَّ هذه أوقات عصيبة بالنسبة للعلوم الإنسانية؛ فالعديد من مواضيع الآداب والفنون الليبرالية أصبح يُنظَر اليها على أنها غير ذات صلة وعفّا عليها الزمن فمن لديه القدرة المالية على الاستثمار في أربع سنوات من التعليم الذي يركّز على حكمة حضارة المايا أو الاختلافات الدقيقة ضمن الشعر الياباني؟ لو قمنا بتكييف القول المأثور الشهير لتشرشل سنة 1939 عن فهم روسيا وتطبيقه هنا، فسنجد أنَّ الطلبة اليوم يواجهون جائحة مغلّفة بالثورة التكنولوجية داخل أزمة مناخية.

 

أنا اعتقد كوني باحثًا فخورًا في العلوم الإنسانية، أنَّ المعرفة التي أنقلها أنا وزملائي هي ضرورية لإعداد الطلاب لعدم اليقين في المستقبل، وكما أظهرت السنوات الخمس الأخيرة فإنَّ التوقعات من أفضل الخبراء التقنيين معرفة يمكن أن تفشل بسهولة. إنَّ العلوم الإنسانية وبتركيزها على مجموعة لا تنتهي من الخبرة البشرية تقدّم أفضل ضمان ضد المتنبئين من أصحاب الثقة المفرطة.

 

لكن حتى عند شرح أنَّ العلوم الإنسانية لا تزال عملية - خاصة عند البحث عن الدعم السياسي- لا يكفي تكرار ما نعرف أنه صحيح؛ ففي استراليا توجد حكومة غير متعاطفة تستهدف العلوم الإنسانية مما زاد بشكل كبير التكلفة على الطلبة الذين يرغبون بدراستها. إنَّ الهدف الواضح هو أن تبعث برسالة للسوق مفادها أنَّ من الأفضل أن يقضي الطلبة وقتهم في دراسة مواضيع تمكّنهم من الحصول على وظائف جاهزة مثل مواضيع العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وطبقًا لوزير التربية السابق دان تيهان – وهو خريج علوم إنسانية لا يفتخر بها كثيرًا- فإنَّ هذه السياسة سوف تنقذ الطلاب من نوعية التعليم التي تضيع عليهم تقريبًا فرصة الحصول على وظيفة.

 

أنت تعلم أنَّ هناك مشكلة عندما يبدأ وزير التعليم بالحديث عن الدورات التي تلتحق بها بنفس الطريقة التي يتحدث بها مسؤولو الصحة العامة عن التدخين. فالفكرة هي زيادة تكلفة دراسة التاريخ وذلك من أجل اقناع الطلاب بأن يقلعوا عن عادة العلوم الإنسانية غير الصحية.

 

كيف يمكن إعادة تشكيل العلوم الإنسانية حتى تبدو أكثر نضارة وأكثر قابلية للتوظيف الجاهز

(وحتى بالنسبة إلى أولئك الذين يرفضون فكرة أنَّ الغرض من الجامعات هو إنتاج عمال منتجين من ذوي الياقات البيضاء)؟ إنَّ أحد الأفكار هي إلغاء الأطروحة الأكاديمية التقليدية واستبدالها بأساليب أكثر فاعلية للإقناع والتواصل.

 

منذ تسعينيات القرن الماضي، لاحظت تغييرًا في مواقف الطلاب تجاه مهام التقييم التقليدي المطلوبة من قِبَل دورات وتخصُّصات العلوم الإنسانية، وربما هذا يعكس الملاحظة الشائعة بأنَّ أولئك المولودين ضمن جيل الألفية أصبحوا "مدفوعين بالهدف" بشكل أكبر من الأجيال السابقة، حيث ظهر ذلك جليًّا من خلال الطلبة الذين تظاهروا مطالبين بقوانين أقوى للسيطرة على السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات مناخية أقوى حول العالم.

 

إنَّ جيل الألفية لا ينتظرون الأذن من كبار السن للحديث، وكما أشار رونالد براونستاين من (سي إن إن) فإنَّ هذا جيل معتاد على عالم الاتصالات في كل مكان وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي. لا يستوعب أفراد هذا الجيل المعلومات ولا يعبرون عن آرائهم بنفس الطرق التي اتبعتها الأجيال السابقة. وتمتد هذه الاختلافات إلى ما هو أبعد بكثير من مجرد التفاصيل المتعلقة بالأسلوب أو المسائل النحوية.

 

إنَّ التداعيات بالنسبة للعلوم الإنسانية هي الحاجة لتبني طرق جديدة لنقل فوائدها إلى جيل الألفية، وفي عصر المعلومات فإنَّ الجيل الذي يدفعه الهدف سوف يكون متعطشًا لأدوات الإقناع وهي أدوات لدى العلوم الإنسانية جاهزية كبيرة لتقديمها.

 

وعليه، فإنَّ النموذج البديل للتقييم الذي اخترته لدورة أقوم بتدريسها في جامعة كارنيجي ميلون هو مقال الرأي التقليدي الذي يتألف من 700 إلى ألف كلمة؛ أي مثل المقال الذي تقرأه الآن. إنَّ هذا النموذج هو مثالي للطلاب الذين يكتبون في العصر الرقمي. إنَّ الشخص الذي يسعى لإقناع عدد كبير من القرّاء من عامة الناس لا يستطيع أن يبدأ بصياغات ثقيلة مثل "في هذا المقال، سأجادل بأن ..." كما لا يمكن لأحد أن ينجح إذا استخدم النثر المطول والمملوء بالمصطلحات غير المفهومة. يجب أن تكون الرسالة جادة فكريًّا ولكن أيضًا منسجمة مع ما يجذب القرّاء بالفعل، ومن أجل النجاح يجب على المرء أن يفكر مليًّا في الطرح الذي يرغب بتقديمه (يمكن العثور على بعض نتائج هذه التجربة التعليمية في صفحة "الوسيط" التي قمت بإنشائها).

 

إنَّ التمكُّن من مثل هذا النوع من التواصل يعني أنَّ طلبة الألفية سوف يكون لديهم الكثير مما يمكن أن يقدموه للعالم ، وقد لا يكونوا خبراء من طراز عالمي أو من الحاصلين على جائزة نوبل

(على الأقل ليس بعد) ولكن يمكن تعليمهم للاستفادة من مزايا أخرى. في عام 2004، قدّم ديفيد شيبلي، الذي كان وقتها محرراً لمقالات الرأي في صحيفة نيويورك تايمز بعض النصائح المفيدة حول أنواع المقالات التي سعى إليها في قسمه؛ فردًّا على سؤال: "هل من المفيد أن تكون مشهوراً؟" أجاب: "في واقع الأمر الإجابة هي لا علمَ أنَّ تقبُّلَ الناس للمقالات يصبح أكثر صعوبة بالنسبة للأشخاص الذين لديهم الوسائل لإيصال رسالتهم بطرق أخرى".

 

إنَّ مقال كاتب شاب سوف يحقِّق المطلوب لو استطاع إيصال خبرة كاتبه بشكل صادق وفعّال. إنَّ شيبلي يشجِّع كتاب الرأي على التركيز على الصوت وطبقًا لكتاب تمهيدي من كلية هارفارد كينيدي، "يمكن أن يكون نطاق الصوت المستخدم في الأعمدة واسعًا: تأمليًّا، تحاوريًّا، وصفيًّا، متمرِّسًا، غنيًّا بالمعلومات، مستنيرًا، استبطانيًّا ، دقيقَ الملاحظة ، حزينًا ، تحريريًّا ، يتسم بنكران

الذات، معقدًا، مرحًا، إضافة إلى غير ذلك من الاحتمالات".

 

يستغل هذا التنوع السمة التعبيرية المميزة لجيل الألفية ونحن نريد أن نسمع منهم؛ لأنَّ نظرتهم تختلف اختلافًا جوهريًّا عن تلك الخاصة بمواليد السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية والجيل الذي أتى بعده والذين يشغلون حاليًّا مناصب قيادية في السياسة وقطاع الأعمال. من الذي يستفيد عندما تكون الأصوات المسموعة الوحيدة بشأن تغيُّر المناخ تنتمي إلى أولئك الذين سوف يكونون قد رحلوا عن عالمنا منذ فترة طويلة قبل أن تتجلى أسوأ إمكاناته؟

 

إنَّ معالجة مشكلاته مثل تغيُّر المناخ أو الذكاء الاصطناعي غير المنضبط لن تتطلَّب اختراقات تكنولوجية فحسب، بل تتطلَّب أيضًا ابتكارًا سياسيًّا ومناقشات حول القيم غير القابلة للقياس وأسئلة تتعلَّق بالعدالة بين الأجيال. يجب أن يكون الشباب الذين لديهم المصلحة الأكبر في نتائج تلك المناقشات مجهزين للمشاركة فيها بشكل كامل.

 

لقد وصفت مجالة تايم في قصة غلافها لسنة 2013 جيل الألفية بطريقة غير جيدة حيث أشارت إلى أنه جيل يهتم بنفسه فقط، مما يدعم الافتراض الشائع بأنَّ الشباب الذين يكبرون في عصر وسائل التواصل الاجتماعي يقضون كثيرًا من الوقت في التركيز على أنفسهم والترويج لشخصياتهم، لكن هؤلاء الشباب هم الوحيدون الذين يمكنهم نقل المعنى الحقيقي لأن تكون مواطنًا رقميًّا، وبينما نستكشف طرقًا لتنظيم الاقتصاد الرقمي الجديد، هذا هو الدليل الذي يجب أن

نسعى له ونحن بحاجة إلى منهج دراسي للعلوم الإنسانية محكم جيدًا وهادف جدًّا لإنتاجه.

 

نيكولاس أجار ، أستاذ الأخلاق بجامعة فيكتوريا في ويلينجتون، نيوزيلندا  وأستاذ زائر بجامعة

كارنيجي ميلون في استراليا ومؤلف كتاب كيف يمكن أن تكون إنسانًا في الاقتصاد الرقمي، مطبعة م أي تي ،2019.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكت ،2021
www.project-syndicate.org