المعركة من أجل مجتمعات مفتوحة تبدأ مجددًا

مارك مالوتش-براون

نيويورك – لقد عادت الديمقراطية إلى أذهان صنّاع السياسات؛ فالرئيس الأمريكي جو بايدن يخطّط لاستضافة قمة تتعلق بهذا الموضوع، كما أنَّ الدعوات لاستضافة فعاليات تتعلَّق بالديمقراطية وحقوق الإنسان تملأ بالفعل البريد الإلكتروني الخاص بي.

إنَّ هذا التركيز المتجدِّد لا يعدُّ أخبارًا طيبة، بل إنه يعكس تآكل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة. لقد أشارت منظمة فريدم هاوس إلى أنَّ أقل من 20% من سكان العالم يعيشون الآن في مجتمعات يمكن تصنيفها على أنها مجتمعات حرّة تمامًا، وهي أقل نسبة منذ أكثر من ربع قرن؛ فالعديد من البلدان تنجرف بشكل مضطرد نحو السلطوية.

تواجه الحرية المتاعب لأسباب معروفة تمامًا. وفي العديد من البلدان فإنَّ تزايد عدم المساواة والتهميش لمجموعات مختلفة قد أدى إلى اعتناق سلطوية الجناح اليميني، وفي بعض الأحيان سلطوية الجناح اليساري. وبينما يصارع العالم للتعامل مع التغيير التقني السريع وإعادة الهيكلة الاقتصادية فإنَّ العديد من الناس غير مقتنعين بالمرة أنَّ الديمقراطيات لديها ميزة فيما يتعلق بالتأقلم وصنع السياسات التي تتطلّع للأمام. لقد أدّت الجائحة -والتي أساءت العديد من الديمقراطيات التعامل معها – إلى تعميق تلك الشكوك.

إنَّ هذه أوقات عصيبة للأشخاص الذين لديهم إيمان عميق بأنَّ الأساس المطلق وغير القابل للتفاوض للحكومة الجيدة هو روح المواطنة التي يتم تمكينها ديمقراطيًّا وحمايتها بشكلٍ متساوٍ بموجب القانون. أنا رئيس أكبر عمل خيري خاص في هذا المجال. لو كنّا صادقين مع أنفسنا، فسوف نعرف أنَّ نماذجنا التقليدية المتعلقة بدعم القيم والمؤسّسات الديمقراطية تواجه المصاعب.

لقد تمَّ تأسيس مؤسَّسات المجتمع المفتوح خلال ثمانينيات القرن الماضي على افتراض أنَّ هناك طلب عام عالمي عاجل للحرية، حيث كانت هناك أعداد متزايدة من الحكومات تتبنى قواعد وأعراف تلك الحرية، وهذا سمح لنا (بالشراكة مع الناشطين المحليين) أن نستخدم مزيجًا من التشهير والتشجيع لإقناع الحكومات بتبني وحماية قوانين حقوق الإنسان والإجراءات الديمقراطية.

سواء كان عملنا يختص بالغجر في وسط وشرق أوروبا أو مجتمعات المثليين في إفريقيا أو الأقليات العرقية في جنوب وشرق آسيا أو حقوق النساء في أمريكا اللاتينية أو حماية المهاجرين واللاجئين في جميع أرجاء العالم، كان يبدو أننا كنّا نسعى لتحقيق مهمة تاريخية وأنَّ هذا السعي قد ينتج عنه في النهاية تمتُّع جميع الأفراد بحقوق وفرص كاملة ومتساوية.

لكن اليوم فإنَّ المد المتصاعد لحقوق الإنسان لا يرفع جميع القوارب، بل على العكس من ذلك يبدو أنَّ هناك خطرًا بأن تغرق جميع تلك القوارب. إنَّ هذا التراجع الحاد الأخير لعشرين سنة من مكتسبات حقوق الإنسان يجبرنا على التفكير مجددًا.

نحن كمؤسسة يترأسها حتى يومنا هذا مؤسِّسها جورج سورس – وهو أحد الناجين من النازية ولاجىء من الشيوعية في بلده هنغاريا- لن ننتقل إلى قضايا تنطوي على تحديات أقل؛ ففي واقع الأمر بدأ سورس المؤسَّسة عندما كانت آفاق إحراز تقدم في مجال حقوق الإنسان تبدو صعبة كما هي عليه الحال اليوم.

إذن، فإنَّ المهمة غير قابلة للتفاوض ولكن يجب علينا إعادة التفكير بنهجن،ا حيث يجب أن نسأل كيف يمكن استعادة الدعم الشعبي للأعراف الديمقراطية وتلك المتعلقة بحقوق الإنسان بينما نحدد أيضًا بطريقة أوضح أعداء المجتمعات المفتوحة، وما الذي سيدعوهم إلى احترام التزاماتهم مجددًا.

لقد كانت المشكلة في أوروبا الشرقية في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي تكمن في الحكومات الشيوعية المتصلبة، التي تعاني من الشيخوخة والتي لم تعد قادرة على خدمة الناس. واليوم أصبح الوضع أكثر تعقيدًا. صحيح أنَّ العالم ثنائي القطب قد أصبح يهدد الحرية مجددًا. إنَّ قمة بايدن القادمة من أجل الديمقراطية هي في جزء منها محاولة لحشد الحكومات ذات التفكير المماثل، والعالم الأشمل أيضًا ضد سلطوية الرئيس الصيني شي جين بينع. إنَّ هذا قد يعني أن يكون للديمقراطيات بعض الشركاء غير المريحين حيث هناك خطر أن تتغلَّب البراغماتية على القيم.

إنَّ وجود شبكة كثيفة من الروابط التجارية والاستثمارية والتعليمية والتقنية يعني أنَّ الصين مرتبطة بالغرب والعكس صحيح بطرق لم تكن متوافرة مطلقًا للاتحاد السوفيتي. إنَّ وجود علاقة اقتصادية أكثر من كونها عسكرية تعطي الديمقراطيات مجموعة من الخيارات -من المقاطعة الحكومية والاستهلاكية وإلى استراتيجية احتواء وارتباط دولية أكثر تجانسًا- للضغط على نظام شي جين بينغ من أجل قبول معايير حسن السلوك في الوطن وخارجه. إنَّ القادة من الجانبين سوف يؤطرون ذلك التنافس بشكل أساسي بموجب البنود الاقتصادية مما يعني أنَّ حقوق الإنسان يمكن أن تصبح كذلك الرابح الكبير أو الخاسر الكبير.

لقد كان سورس يعدُّ دائمًا العمل المرتبط بمؤسَّسات المجتمع المفتوح على أنه "عمل خيري سياسي". إنَّ ما يعنيه هو أننا بحاجة إلى التعامل مع ديناميكيات التغيير الأوسع وإيجاد وسائل لدعم قضايانا. وبينما كانت الدول القوية هي المنتهك الوحيد لحقوق الإنسان أو في طليعة الدول التي تنتهك حقوق الإنسان إبّان الحرب الباردة، فإنَّ عالم اليوم هو أحد التهديدات متعددة الأبعاد لحقوق الإنسان. إنَّ أوجه عدم المساواة التي تفاقمت بسبب قوة الشركات والقوة المالية العابرة للحدود وغير المنظمة، إضافة إلى التحولات الدراماتيكية في ثروات الدول تخلق حاليًّا أجواءً تنطوي على تحدٍّ أكبرَ من أي وقت مضى؛ فلقد أصبح العالم أكثر انعدامًا للمساواة وأكثر غضبًا.

إنَّ هذا الغضب يزداد اشتعالًا بسبب منصات التواصل الاجتماعي حيث يقوِّض الاستقطاب والإساءة والكذب الثقة بالمؤسسات. إنَّ التقنية التي كان ينظر اليها العديد من الناس قبل سنوات قليلة على أنها تدعم حقوق المواطنين قد أصحبت الآن في العديد من الحالات أداة للتلاعب بالعقول وإغلاق المجتمعات.

إنَّ تقليد السلوك الخبيث الذي سمحت به رئاسة دونالد ترامب لأربع سنوات وشجعته ضمن الأنظمة حول العالم أسهم في تسريع أزمة احترام حكم القانون وحقوق الإنسان، حيث أصبح الرؤساء يسرقون فترات رئاسة إضافية وتصاعد الفساد الرسمي كما أنَّ الاتفاقيات بين الدول تجاهلت حقوق البشر، وحاليًّا فإنَّ المدافعين عن حقوق الإنسان والمناصرين لهم غير مرحّب بهم في كثير من أرجاء العالم.

إنَّ الحكومات الخبيثة والعولمة والتي تسبَّبت بعواقب مالية وتجارية غير مقصودة هي فقط نصف المشكلة. إنَّ العديد من الناس يرون أنَّ الاهتمام المتجدد بالعنصرية المؤسَّسية المترسخة في الولايات المتحدة الأمريكية وحول العالم – والإقرار بأنَّ التهميش المبني على أساس العرق والجنس والدين والطبقة الاجتماعية غالبًا ما يعزّز كل منها الآخر-يكشف عن حدود أجندة حقوق الإنسان، حيث يجادل الضحايا بأنَّ معالجة موضوع حقوق الإنسان قد خدشت السطح ولكنها لم تصل للجذور.

يحتاج العمل المتعلق بحقوق الإنسان أن يكون أكثر سياسية، أشد وأذكى في هجماته على الظالمين وأوضح في وقوفه الى جانب المضطهدين. نحن بحاجة للتعامل مع التحديات التي يواجهها الناس بالفعل وذلك بالنظر إلى ما هو أبعد من الحقوق السياسية الضيقة من أجل معالجة الأسباب الأعمق للإقصاء الاقتصادي والاجتماعي.

مارك مالوتش -براون هو نائب سابق للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مشارك سابق لمؤسسة الأمم المتحدة ويعمل حاليًّا رئيسًا لمؤسسات المجتمع المفتوح.

حقوق النشر:بروجيكت سنديكت 2021
www.project-syndicate.org