لماذا يجب أن يكون التطعيم إلزاميًّا؟

بقلم بيتر سينغر

ملبورن- أكتب هذا التعليق من مدينة فيكتوريا، الولاية الأسترالية التي أصبحت في عام 1970، أول ولاية قضائية في العالم تسنُّ قانونًا ينصُّ على إلزامية وضع حزام الأمان في السيارة. وتعرض التشريع لانتقاد لاذع باعتباره انتهاكًا للحرية الفردية، لكن الفيكتوريين وافقوا عليه؛ لأنه أنقذ حياة الأشخاص. والآن، تعتمد معظم دول العالم تشريعًا مماثلًا. ولا أستطيع أن أتذكَّر آخر مرة سمعت فيها شخصًا يطالب بحرية القيادة دون وضع حزام الأمان.

والأحرى أننا نسمع الآن مطالبات بحرية عدم أخذ لقاح الفيروس المسبب لـكوفيد-19. ويقول برادي إليسون، عضو فريق الرماية الأولمبي بالولايات المتحدة، أنَّ قراره بعدم أخذ اللقاح كان "اختيارًا شخصيًّا مائة بالمائة"، ويصرُّ على أنَّ "أيَّ شخص يقول غير ذلك ينتزع حريات الناس".

والغريب هنا هو أنَّ القوانين التي تطالبنا بوضع أحزمة الأمان هي حقًّا تنتهك الحرية بصورة مباشرة تمامًا، في حين أنَّ القوانين التي تنصُّ على تلقيح الأشخاص إذا كانوا سيتواجدون في أماكن يمكن أن يصيبوا فيها أشخاصًا آخرين بالعدوى، تقيد نوعًا واحدًا من الحرية من أجل حماية حرية الآخرين في ممارسة أعمالهم بأمان.

لا تسئ فهمي، فأنا أؤيد بشدة القوانين التي تتطلَّب من السائقين وراكبي السيارات وضع أحزمة المقاعد؛ إذ في الولايات المتحدة، تشير التقديرات إلى أنَّ هذه القوانين أنقذت حياة ما يقرب من 370  ألف شخص، وحالت دون وقوع العديد من الإصابات الخطيرة. ومع ذلك، فإنَّ هذه القوانين أبوية. فهي تجبرنا على القيام بشيء من أجل مصلحتنا وتنتهك مبدأ (جون ستيوارت ميل) الشهير: "الغرض الوحيد الذي من أجله يمكن ممارسة السلطة بصورة شرعية على أي عضو في مجتمع متحضر، رغماً عنه، هو عدم إلحاق الأذى بالآخرين". إنَّ كون الإكراه يخدم مصلحة الفرد "ليس مبررًا كافيًا".

وهناك الكثير مما يمكن قوله عن هذا المبدأ، خاصةً عندما يُستخدم لمعارضة القوانين التي تكافح السلوك الذي لا ضحايا له، مثل العلاقات الجنسية المثلية بين البالغين المتراضين، أو القتل الرحيم الطوعي. ولكن (ميل) كانت لديه ثقة أكبر من ثقتنا المبرَرة اليوم بقدرة أعضاء المجتمعات "المتحضرة" على اتخاذ خيارات عقلانية بشأن مصلحتها.

وقبل أن تصبح أحزمة المقاعد إلزامية، شنَّت الحكومات حملات لتثقيف الناس بشأن مخاطر عدم ارتدائها. وكان لهذه الحملات بعض التأثير، لكن عدد الأشخاص الذين ارتدوا أحزمة الأمان لم يصل إلى عدد الأشخاص الذين كانوا يضعونها في الولايات المتحدة اليوم، والذي بلغ 90٪ أو أكثر (مع وجود أرقام مماثلة أو أعلى في العديد من البلدان الأخرى، حيث يُعدُّ عدم ارتدائها مخالفة).

والسبب هو أننا لا نجيد حماية أنفسنا من مخاطر الكوارث الصغيرة جدًّا؛ إذ في كل مرة نركب سيارة ما، تكون فرصة تعرضنا لحادث خطير قد يتسبَّب في إصابة، إذا لم نضع حزام الأمان، ضئيلة للغاية. ومع ذلك، نظرًا لتكلفة ارتداء الحزام الضئيلة، فإنَّ إجراء حساب معقول لمصالح المرء يُبين أنه من غير المنطقي عدم وضع الحزام. إنَّ الناجين من حوادث السيارات ممن أصيبوا بسبب عدم ارتدائهم أحزمة الأمان يعترفون بلاعقلانيتهم ويأسفون لها، ولكن فقط بعد فوات الأوان، كما هي الحال دائمًا بالنسبة لأولئك الذين قتلوا أثناء جلوسهم على أحزمة الأمان.

إننا نشهد الآن وضعًا مشابهًا جدًّا فيما يتعلَّق بالتطعيم. إذ نشرت (بريتني كوبيا) أخيرًا على (فيسبوك)، تجربتها في العمل كطبيبة في برمنغهام، ألابامان وتقول فيها ما يلي:

"أشرف على إدخال شباب أصحاء إلى المستشفى وهم مصابون بعدوى خطيرة جدًّا بسبب كوفيد. وأحد آخر الأشياء التي يقومون بها قبل أن يتمَّ إخضاعهم لعملية تنبيب، هو التوسُّل إلي للحصول على اللقاح. فأمسك بأيديهم وأقول لهم "آسفة، لكن الأوان قد فات". وبعد بضعة أيام، عندما أعلن عن وفاتهم، أعانق أفراد أسرهم وأخبرهم أنَّ أفضل طريقة لتكريم أحبائهم هي الذهاب للتطعيم، وتشجيع كل شخص يعرفونه على فعل الشيء نفسه. فكانوا يجهشون بالبكاء، ويقولون أنهم لم يكونوا على علم بذلك. وأنهم كانوا يظنون أنها خدعة سياسية. لقد كانوا يعتقدون أنهم لن يمرضوا لأنَّ لديهم فصيلة دم معينة أو لون بشرة معين. وظنوا أنها "مجرد أنفلونزا". لكنهم كانوا مخطئين، وكانوا يرغبون في العودة إلى الوراء. لكنهم لا يستطيعون ذلك.

ونفس السبب يبرر جعل التطعيم ضد كوفيد-19 إلزاميًّا؛ وإلا، فسيتخذ الكثير من الناس قرارات يندمون عليها لاحقًا. إنه لمن القساوة قول: "هذا خطأهم، فليموتوا إذاً".

وعلى أي حال، في عصر فيروس كورونا، لا تنتهك إلزامية التطعيم مبدأ (ميل) الذي يتجلى في "إلحاق الضرر بالآخرين". إذ يشكّل الرياضيون الأولمبيون غير الملقحين مخاطر على الآخرين، تمامًا كما يحدث عندما يمشي المرء بسرعة في شارع مزدحم. وكان "الخيار الشخصي" الوحيد الذي كان يجب أن يتخذه إليسون هو أخذ اللقاح أو البقاء في المنزل. ولو قالت اللجنة الأولمبية الدولية إنَّ الرياضيين الذين أخذوا اللقاح هم فقط من يمكنهم التنافس، لكان ذلك سيجنِّب الآلاف من الرياضيين خطر الإصابة المتزايد، ولكان سيبرِّر رفض رغبة إليسون في المنافسة دون تلقيح.

وللسبب نفسه، لا تمثل القواعد التي تمَّ الإعلان عنها الشهر الماضي في فرنسا، واليونان، والتي تتطلَّب من الأشخاص الذين يذهبون إلى دور السينما أو الحانات أو السفر في القطار، إظهار دليل على التطعيم، انتهاكًا لحرية أي شخص. ففي فبراير/شباط الماضي، عندما أصبحت الحكومة الإندونيسية أول من جعل التطعيم إلزاميًّا لجميع البالغين، لم تكن المأساة الحقيقية تكمن في كونها تنتهك حرية مواطنيها، بل في كون الدول الغنية لم تتبرع باللقاحات التي تحتاجها لتنفيذ القانون. ونتيجة لذلك، أصبحت إندونيسيا الآن بؤرة لتفشي الفيروس وتوفي فيها عشرات الآلاف من الإندونيسيين غير المطعمين.

ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch

يشغل بيتر سِـنغر منصب أستاذ أخلاق الطب الحيوي بجامعة برينستون، ومؤسس المنظمة غير الربحية The Life You Can Save.  (لحياة التي يمكن أن تنقذها).

وتشمل كتبهAnimal Liberation  (تحرير الحيوان)، وPractical Ethics (الأخلاق العملية)، وEthics in the Real World  (الأخلاق في العالم الحقيقي). ونُشرت للتو نسخته من كتاب Utilitarianism  لجون ستيوارت ميلز (الذي حرر بالاشتراك مع كتارزينا دي لازاري راديك)، في مكتبة نورتن

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org