الوصفة الصحيحة لإصلاح معاشات التقاعد
إلسا فورنيرو
تورين ــ إنَّ إصلاح معاشات التقاعد مهمة لا تحظى بما تستحقه من تقدير لكنها ضرورية. الواقع أنَّ معاشات التقاعد تُـعَـدُّ موضوعًا صعبًا وعاطفيًّا يؤثر في كل مواطن، وينطوي تغيير طريقة حسابها أو متى يستطيع العامل أن يتقاعد على التفاوض على شبكة معقدة من القواعد، والعادات، والاستحقاقات التي لا تعبر عنها النماذج الأكاديمية الأنيقة.
في البلدان حيث أنظمة المعاشات وطنية، تكون الركيزة الأساسية مدونة عادة في القانون وتديرها الدولة. وتأتي مصادر أخرى لدخل التقاعد من صناديق المعاشات المهنية والاستثمارات الفردية، والتي تعتمد على السوق لكنها تخضع لهيئات تنظيمية، مثل الهيئة الأوروبية للتأمين والمعاشات المهنية.
برغم أنَّ الدولة لا توفِّر كلَّ دخل معاشات التقاعد، فإنَّ الحكومات لديها أسباب وجيهة للمشاركة في جهود الإصلاح. فلم تعد الكفاءة وحدها على المحك في توفير معاشات التقاعد، ومن الواضح أنَّ قدرة سوق التأمين على حماية الناس في سن الشيخوخة محدودة. علاوة على ذلك، يهدد الاعتماد على السوق لتقديم الدعم للمواطنين من كبار السن بالتسبب في زيادة الفقر.
الواقع أنَّ برامج الحماية الاجتماعية في القرن العشرين وُضِـعَـت مع مراعاة هذه الاعتبارات. وعلى الرغم من التغيرات الديموغرافية (السكانية) والاقتصادية العميقة، فإنها لا تقل أهمية وتأثيرًا اليوم.
يجري تمويل ركيزة المعاشات الحكومية عادة على أساس الدفع أولًا بأول والذي يعتمد على عَـقـد بين الأجيال. يدفع العاملون من السكان اشتراكات الضمان الاجتماعي عن طريق الضرائب المفروضة على الرواتب لهيئة المعاشات الحكومية، والتي تدفع بدورها هذه الأموال على الفور بشكل أو آخر للسكان المتقاعدين في هيئة دخل سنوي.
على عكس برامج التأمين الخاصة، لا يعتمد نظام الدفع أولًا بأول على الاحتياطيات المالية، بل على أساس تفاهم يقضي بأن يدفع أولئك الذين يعملون حاليًّا للمتقاعدين وأن يفعل الشباب والذين لم يولدوا بعد ذات الشيء لصالح أولئك الذين يعملون حاليًّا. ومن الواضح أنَّ الدولة، وليست السوق، هي القادرة على "ضمان" هذا الـعَـقد من خلال ربط معاشات المستقبل بصيغ حسابية، مع مراعاة التدفق الكامل للمساهمات ومعدل العائد الذي يتوافق مع معدل نمو دخل العمل.
في بعض الأحيان، كان بعض الخبراء يروجون لتمويل برامج معاشات التقاعد من خلال كيانات خاصة على أنه خيار أفضل من نظام الدفع أولاً بأول. يفترض هذا النهج أنَّ سعر الفائدة سيكون أعلى من معدل النمو الاقتصادي، وبالتالي سيكون دخل التقاعد ــ بذات الحجم من الاشتراكات ــ أعلى. لكن هذا النوع من الإصلاح الجذري لم يصادف النجاح في البلدان التي طبقته في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية. وفي بعض الحالات، كان من الضروري التراجع عن هذه السياسة، وكانت هذه عملية مؤلمة حقًّا.
اليوم، أصبح النظام المختلط الذي يجمع بين الخيارات العامة والخاصة أكثر شيوعًا. ولكن حتى في النظام المختلط، يلزم إجراء بعض الإصلاحات للتأكُّد من أنَّ معاشات التقاعد مستدامة وكافية. كما يشكِّل الإشراف الدقيق أيضًا ضرورة أساسية، لتقليل أو إزالة التشوهات المحتملة في النظام. تشمل هذه التشوهات الضرائب الضمنية على العمل المنجز بعد استيفاء الحد الأدنى من متطلبات التقاعد، واحتمال استفادة العاملين الأكثر ثراء بشكل أكبر من العاملين الأكثر فقرًا، بسبب الارتباط الضعيف بين المساهمات ومعاشات التقاعد في صيغ بعينها من المنافع.
يتمثل التحدي الرئيس الذي يواجه أنظمة الدفع أولاً بأول في الحاجة إلى التكيف مع تحوُّلات ديموغرافية واقتصادية بنيوية رئيسة. مع تقدم السكان في العمر، وانخفاض معدلات الخصوبة، وتوقف تدفقات الهجرة، يصبح من الصعب الحفاظ على الـعَـقد بين الأجيال والذي يشكِّل الأساس لأنظمة الدفع أولاً بأول.
في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، كانت جهود إصلاح معاشات التقاعد في أوروبا تركز على التغييرات التي تزيد من سن التقاعد الفعلي، وتعادل القواعد التي تحكم التقاعد بين الرجال والنساء، وتعزز الارتباط بين مساهمات الأفراد والفوائد التي يحصلون عليها. إنَّ اعتماد شكل ما من صيغ المساهمات المحددة يجعل من الممكن تفصيل معاشات التقاعد بما يتناسب مع مساهمات العمال الفردية دون الاضطرار إلى الرسملة في الأسواق المالية. في هذا النوع من البرامج، تتحدد الفائدة الأولية التي يحصل عليها العامل عند التقاعد وجدولتها اللاحقة من خلال تطبيق عامل اكتواري على رأس المال النظري المتراكم والذي يعبّر عن طول العمر المتوقع.
في أيِّ إصلاح جيد، لا يمكن فصل نظام معاشات التقاعد عن سوق العمل والاقتصاد. وتُعَدُّ أسواق العمل الديناميكية الشاملة، التي تسهِّل على العمال العثور على وظيفة وتيسر لأصحاب العمل استئجار العاملين، أفضل شرط مسبق لتطبيق أنظمة معاشات التقاعد المناسبة. ويجب أن تُـعـطى أولوية أعلى وموارد أكبر للسياسات الـمعززة لتشغيل العمالة الطويلة الأجل مثل التلمذة الصناعية والتعلم مدى الحياة.
يجب أن تضمن الإصلاحات أيضًا أنَّ معاشات التقاعد العامة تعزِّز التضامن الاجتماعي، حتى لا يعاني المحرومون في سوق العمل عند التقاعد. ومن الممكن أن يتخذ التضامن هيئة مساهمات نظرية ممولة بالضرائب وموجهة إلى العاملين في وظائف خطرة، أو العاطلين عن العمل، أو العاملين الذين يقدمون رعاية طويلة الأجل لأقارب.
يظل النمو الاقتصادي يشكِّل المتغير الرئيس الذي يحدِّد مدى كفاية واستدامة الأنظمة العامة القائمة على الدفع أولا بأول. ويساعد النمو بمعدلات لائقة على خلق وظائف إضافية، في حين يعمل على الحد من البطالة وتشجيع المشاركة في قوة العمل، وزيادة احتمال توظيف المواطنين في سن العمل النشط (من 20 إلى 65 عامًا).
لكن إصلاحات نظام معاشات التقاعد ليست مجرد مسألة فنية قابلة للحلول التكنوقراطية. فبسبب تأثيرها في الثروة، والتوقعات، وخطط الحياة، تعدُّ هذه الإصلاحات سياسية. ويجب أن تنال موافقة المؤسَّسات الحكومية ودعم الرأي العام. في غياب الدعم الشعبي، يُـصبِـح أي إصلاح عُـرضة لخطر التراجع رسميًّا أو تجاوزه عمليًّا.
لزيادة احتمالية نجاح الإصلاح، يجب أن يتمكَّن العاملون من فهم مكونات ثروتهم من معاشات التقاعد. ويجب أن يكونوا على دراية بفرص الاستثمار وخيارات التقاعد حتى يتسنّى لهم اتخاذ اختيارات معقولة وتجنُّب أسباب خيبة الأمل، مثل النقص في مزايا المعاشات العامة.
ينبغي للعمال أن يفهموا أيضًا الأساس المنطقي لإصلاح معاشات التقاعد. ويتعين على الحكومات أن تشرح للناس كيف ستعمل على الحد من اختلالات التوازن بين الأجيال، وتعزيز الاستدامة المالية لبرامج معاشات التقاعد، والحد من التشوهات والامتيازات. ولكي يتمكَّن العمال من فهم هذا المنطق، يجب أن يتمتّعوا بمستوى معين من المعرفة المالية. ولكن من المؤسف أنَّ الدراسات الاستقصائية أثبتت وجود فجوات في المعرفة بشأن معاشات التقاعد فضلًا عن الأمية المالية الواسعة الانتشار.
إنَّ الاستعداد للتقاعد مسعى يدوم مدى الحياة، ويشكِّل التعليم المالي جزءًا أساسيًّا من هذا المسعى. يتعيَّن على الحكومات أن تبذل المزيد من الجهد لضمان حصول العاملين على ما يحتاجون إليه ليتسنّى لهم اتخاذ أفضل القرارات بشأن تقاعدهم.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
إلسا فورنيرو وزيرة العمل والسياسات الاجتماعية والمساواة بين النوعين الاجتماعيين في إيطاليا سابقا، وهي زميلة فخرية في مؤسسة كوليجو كارلو ألبرتو في تورين، والمنسقة العلمية في مركز أبحاث معاشات التقاعد وسياسات الشؤون الاجتماعية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org