كيف نتعاون مع الصين
أندرو شنج، شياو قنج
هونج كونج ــ الصين بلد يصعب فهمه ــ حتى من منظور أغلب سكانه. لكن الكثير مما يجعل الصين محاطة بالغموض ومستعصية على الفهم ــ تاريخها الطويل، وأراضيها الشاسعة المتنوعة، وعدد سكانها الضخم وتنوعهم، وسياستها المعقدة، واقتصادها الديناميكي الهائل ــ يجعل من المهم أيضاً فهمها. فما يحدث في الصين يؤثر في الجميع، في السراء والضراء.
يميل المراقبون الغربيون أكثر من غيرهم إلى بذل قصارى جهدهم في محاولة فك رموز الصين. على حد تعبير عالم الصينيات الهولندي هانز كويجبر، "ينطوي علم الصينيات الغربي على خطأ جوهري: فالخبراء في شؤون الصين إما يتظاهرون بأنهم على دراية بكل ما يتعلق بالصين، وفي هذه الحالة لا يمكن أخذهم على محمل الجد، أو ــ في النهاية ــ يعترفون بأنهم ليسوا ملمين علمياً بكل ما يحيط بها، وفي هذه الحالة لا يمكننا أن نعتبرهم خبراء في شؤون الصين".
لا يخلو الأمر من أسباب واضحة تجعل الغربيين يجدون هذا القدر من الصعوبة في فهم الصين. بادئ ذي بدء، تتمتَّع الصين بتاريخ طويل للغاية كحضارة زراعية قارية، وحكومة مركزية قوية، وأنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية موحدة.
يختلف هذا بشكل حاد عن التفتُّت الجغرافي والمنافسة السياسية التي نراها تاريخياً في الغرب ــ مهد الدولة القومية الحديثة ورأسمالية السوق. ويساعد هذا التباعد التاريخي على تفسير نجاح الصين اليوم في تحقيق بعض الأهداف، مثل تشييد البنية الأساسية على نطاق واسع، وبقدر أعظم كثيراً من الكفاءة مقارنة بالغرب، مع أنها أبطأ كثيراً في تحقيق أهداف أخرى، مثل بناء الديمقراطية.
لكننا لن نجد خطاً فاصلاً واضحاً بين التخطيط المركزي الصيني والرأسمالية الديمقراطية الغربية. على سبيل المثال، قد تكون الصين الشيوعية أكثر "رأسمالية" من البلدان الغربية فيما يتصل بسلوك السوق الخام. الواقع أنَّ ثلثي اقتصادها "الذي تديره الدولة" يجري تشغيله الآن بواسطة جهات خاصة. مع ذلك، لم تحقِّق الصين هذا عن طريق "الخصخصة" على النمط الغربي.
تتحدى الصين الأطر الغربية التقليدية، بالاستعانة بنهج في صنع السياسات يتسم بطول الأجل، والواقعية، والارتباط بالسياق. ومع تأثرهم بالفلسفة الصينية القديمة، ينخرط صناع السياسات في الصين في فِـكر الأنظمة المعقدة. وهم يدركون أنَّ الأنظمة من غير الممكن أن تكون ثابتة أبداً، وبالتالي من غير الممكن أن تحكمها على النحو الملائم قواعد وإجراءات جامدة. ولتمكين الإصلاح المستمر وعملية صنع السياسات القادرة على التكيف ــ وهو أمر أساسي لدعم استقرار وعمل وتطور الأنظمة المعقدة ــ تكون المبادئ العلائقية المرنة غالباً أكثر فائدة بوضوح.
ساعدت التكنولوجيا على عملية التكيف هذه، من خلال المساعدة في التغلب على مشكلات التنسيق والاتصال. على سبيل المثال، يربط تطبيق WeChat بين الشبكات والمنظمات المعقدة، فيعمل بالتالي على تسهيل تسليم المشاريع الضخمة والمعقدة في الوقت المناسب.
من السمات البارزة الأخرى في عملية صنع السياسات الصينية الميل إلى التأكيد على البقاء الجماعي قبل المصالح الفردية. على النقيض من الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تتمتَّع الصين بخبرة واسعة في التعامل مع الاضمحلال والانهيار الجهازي. ويدرك قادة الصين تمام الإدراك عدم الاستقرار الذي قد ينتج عن هذا ــ ومدى صعوبة إعادة البناء. وهم ملتزمون بالتالي بالحفاظ على الأنظمة القائمة وتطويرها وتقويتها، حتى وإن كان ذلك يعني فرض تكاليف قصيرة الأجل على الأفراد.
ولكن هنا أيضاً، نخوض مجازفة التفكير الاختزالي. فظاهريا، يمكن مقارنة نهج الصين بنهج بلدان أخرى باستخدام مصفوفة رباعية، تشتمل على عقلية "أنا-أنا" وعقلية "نحن-نحن". وقد جسدت الولايات المتحدة لفترة طويلة ــ وخاصة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب ــ عقلية "أنا-أنا"، حيث يتراجع الصالح الجماعي في الأهمية عن الحقوق والحريات الفردية.
ولكن إذا كانت استراتيجيتها في التعامل مع جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) لتعطينا أيَّ مؤشر، فربما تكون إدارة بايدن على استعداد لدفع الولايات المتحدة نحو نهج "أنا-نحن" ــ الذي يظل يركز على الحقوق الفردية، ولكن مع وضع الصالح الجمعي في الاعتبار ــ وإن كان من المتوقع أن تواجه الإدارة مقاومة شديدة دون شك. وتُـعَـدُّ الديمقراطيات الاجتماعية في أوروبا الممثل الأفضل لهذه الفئة.
من جانبها، تقع الدول الآسيوية في الأغلب ضمن فئة "نحن-أنا"، حيث تضع المصلحة الجمعية أولا، لكنها تظل تشدد على الحقوق الفردية. لكن تأكيد الصين على الرفاهة الجمعية قوي بالقدر الكافي لوضعها ــ إلى جانب كوبا ــ في معسكر "نحن-نحن". ومع ذلك فإنَّ الأصوات المطالبة بالحقوق الفردية تزداد ارتفاعاً في كل من البلدين.
من الواضح أنَّ تعميق التكامل الدولي عمل على تمكين قوى خارجية من التأثير على الفِـكر الصيني، في ذات الوقت حيث تُـشَـكِّـل الصين بقية العالم على نحو متزايد. من المؤسف أنَّ حلقات التغذية الراجعة الديناميكية يجري التعامل معها غالباً على أنها لعبة محصلتها صِـفر، حيث لا تكتفي البلدان بالتشبث بالأساليب ووجهات النظر المألوفة، بل وتحاول أيضاً فرض أساليبها على الآخرين.
في ظل خطة بايدن الرامية إلى بناء مجموعة من الديمقراطيات لاحتواء الصين كجزء من "المنافسة الشديدة" بين قوتين، فإنَّ هذا هو ما يعتزم القيام به على وجه التحديد. وهذا من شأنه أن يجعل الجميع في حال أسوأ. فكما أبرزت جائحة كوفيد-19، يشكل التعاون العالمي أهمية بالغة في التصدي للتحديات العابرة للحدود الوطنية، بما في ذلك الإرهاب، والهجرة، والتفاوت، وتغير المناخ. وإذا افتعلت البلدان المعارك فيما بينها، فسوف تزداد هذه التحديات جسامة.
في الوقت الحالي، تقوم الصين بترتيب البيت من الداخل، على سبيل المثال من خلال تنفيذ "استراتيجية التداول المزدوج"، التي تهدف إلى تعزيز سلسلة التوريد الصينية ومرونة السوق من خلال زيادة الاعتماد على "التداول الداخلي". لكن هذه الاستراتيجية لا تمنع التعاون. بل على العكس من ذلك، ترحِّب الصين بالمزيد من التعاون فيما يتصل بالتحديات المشتركة، ما دام هذا لا يعني المساومة على معتقداتها وأنظمتها الأساسية.
عندما يكون الغرب مستعداً للتعاون ــ دون محاولة إجبار الصين على تجاوز خطوط حمراء مثل تغيير النظام ــ سيكون من الضروري للغاية إبرام عقد اجتماعي عالمي جديد. وهذا يعني كبداية إصلاح المؤسسات المتعددة الأطراف، مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية.
من خلال إشراك جميع أصحاب المصلحة، من الممكن أن تساعد هذه العملية على تعزيز تطوير سرد مشترك، حيث تحدِّد كلُّ دولة دورها ضمن المجموع العالمي. في مثل هذا السيناريو، تقوم كل من الولايات المتحدة والصين بدورها في حماية المشاعات العالمية، بدلاً من التنافس على الهيمنة العالمية.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
أندرو شنج زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونج كونج، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام. شياو قنج رئيس مؤسسة هونج كونج للتمويل الدولي، وأستاذ ومدير معهد أبحاث طريق الحرير البحري في كلية إتش إس بي سي لإدارة الأعمال في جامعة بكين.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org