مشروع أمريكا السياسي في ضوء التحديات الاقتصادية
المصدر: ريتشارد هاس
لأكثر من ثلاثة أرباع قرن من الزمان، اضطلعت الولايات المتحدة بأدوار كبيرة ضخمة في العالـم.
وقد كان دخولها في الحرب العالمية الثانية حاسماً.
وبسبب الإلحاح الأمريكي جزئياً، دخلت الحقبة الاستعمارية مرحلة النهاية السريعة، وإن لم تكن نهاية سلمية دائماً. وقد ساعد إنشاء نظام تحالفات ما بعد الحرب، في ضمان بقاء الحرب الباردة باردة حقاً، وانتهائها بشروط تتفق مع المصالح والقيم الغربية.
كما عملت مجموعة من المؤسسات والسياسات على توفير الأساس لنمو اقتصادي عالمي غير مسبوق، وإطالة متوسط العمر المتوقع.
لكن قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار بدور عالمي كبير ومؤثر، أصبحت مُـحاطة بالشكوك على نحو متزايد. قد لا يكون لبعض الأسباب علاقة بالولايات المتحدة، لكنها تؤثر في موقفها رغم ذلك.
كما ينطوي الأمر على تحديات خارجية، فالاقتصاد الأمريكي الذي كان بعد الحرب العالمية الثانية مسؤولاً عن نصف الناتج العالمي، ينتج الآن الربع فقط. والآن أصبحت القوة العسكرية موزعة على نطاق واسع بين دول ومجموعات أخرى.
كما أصبحت موارد الطاقة والمعادن، ومراكز التصنيع التي تعتمد عليها الولايات المتحدة، وغيرها من الدول، موزعة على نطاق واسع. وتتمثل مكانة أمريكا في هذا العالم في الأسبقية والصدارة في مجمل الأمر، ولكن ليس الهيمنة.
الواقع أن قدرة أمريكا على فرض إرادتها، أصبحت مقيدة على نحو متزايد بفعل العولمة.
وسواء كانت القضية تغير المناخ أو الفيروسات، فلا تستطيع الولايات المتحدة عزل نفسها عن العواقب الباهظة التكلفة المترتبة على تطورات تحدث خارج حدودها، ولا قِـبَـل لها بإيجاد الحلول منفردة. وعلى هذا، فلم تعد الانعزالية ولا الأحادية خياراً وارداً.
لكن ما قد يشكل التهديد الأشد خطورة للأمن والاستقرار العالميين، ينبع من تطورات جارية داخل الولايات المتحدة، من الانقسامات السياسية والاجتماعية العميقة، التي تهدد قدرة البلاد التنافسية، وقدرتها على تصميم وتنفيذ سياسة متسقة، بل وحتى استقرارها.
إن الولايات المتحدة الأكثر ضعفاً والأقل قابلية للتنبؤ، من شأنها أن تتسبب في تمزيق نسيج التحالفات، التي تتطلب لكي تكون فَـعّـالة المساعدة المتبادلة، لتكون شبه مؤكدة. على نحو مماثل، ستزداد جرأة الخصوم على اعتقاد منهم بأنهم قادرون على التصرف دون خوف من عقاب.
وسوف تكون النتيجة عالماً يتسم بصراعات أشد تكراراً، حيث تنتشر الأسلحة المتقدمة على نطاق أوسع، وحيث تفرض دول عدوانية قدراً أعظم من النفوذ.
علاوة على ذلك، سوف تفتقر الولايات المتحدة المشتتة والمنقسمة في الداخل، إلى القدرة والإجماع لممارسة القيادة في التصدي لتحديات عالمية، مثل تغير المناخ.
وفي غياب الموارد والقيادة الأمريكية، يكاد يكون من المؤكد، أن الفجوة الكبيرة بالفعل بين هذه التحديات العالمية والاستجابات العالمية لها ستزداد نمواً.
ولا توجد دولة أخرى أو مجموعة من الدول، على استعداد لاحتلال مكانة أمريكا على المسرح العالمي، أو تمتلك القدرة على الاضطلاع بتلك المهمة.
السؤال إذن: هل تستطيع الولايات المتحدة استعادة موطئ قدمها قريباً، والعودة إلى هيئة أشبه بتلك التي كانت عليها طوال السنوات الخمس والسبعين الماضية؟
هناك بعض العلامات المطمئنة. فقد كان الدعم الاقتصادي والعسكري الذي قدمته أمريكا لأوكرانيا قوياً.
كما جاءت نتائج انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2022، لتطمئننا بعد هزيمة العديد من المرشحين الأكثر تطرفاً، والذين يشكلون أكبر تهديد للديمقراطية الأمريكية.
ولكن هناك أيضاً تطورات أقل طمأنة. لقد احتفلنا للتو بالذكرى السنوية الثانية لهجوم السادس من يناير 2021، على مبنى الكابيتول الأمريكي، الذي اقترب من تدمير الديمقراطية الأمريكية.
لا أحد يستطيع أن يفترض أن مثل هذه الاحتجاجات العنيفة، لن تحدث مرة أخرى.
والآن، بعد أن أصبحت الحكومة المنقسمة حقيقة واقعة مرة أخرى، يتبقى لنا أن نرى ما إذا كان الرئيس الديمقراطي ومجلس الشيوخ الديمقراطي، ليتمكنا من إيجاد أي أرضية مشتركة مع مجلس النواب، الذي يقوده الجمهوريون.
الواقع أن العلامات المبكرة ليست مبشرة، حيث يبدو الجمهوريون الممكنون حديثاً، أكثر تركيزاً على التحقيق ووضع العراقيل، من اهتمامهم بالتشريع والقيادة.
في مناسبة شهيرة، قال ونستون تشرشل: «يمكنك دائماً أن تعتمد على قيام الأمريكيين بالتصرف السليم ــ بعد أن يجربوا كل شيء آخر».
هذه المقولة توشك أن توضع محل اختبار الآن. المشكلة هي أن بقية بلدان العالم ستتأثر بصورة بالغة بما يحدث في الولايات المتحدة، لكن قدرتها على التأثير في التطورات هناك ضئيلة أو معدومة. إنها حقيقة غير مريحة، ولكن لا يمكن الفرار منها.
* رئيس مجلس العلاقات الخارجية.