إعادة اختراع باريس
كارلو راتي
باريس ــ عندما التقيت لأول مرة جان لويس ميسيكا، الذي كان آنذاك يشغل منصب نائب عمدة باريس المسؤول عن الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري، في عام 2014، رحب بي بسؤال عاجل: كيف يمكننا تسريع عملية الإبداع الحضري؟ بعد سنوات، أصبحت الإجابات عن تساؤله واضحة.
كان مكتب ميسيكا في قصر بلدية باريس، المبنى الحكومي المهيب الذي كان موقعًا للعديد من الانتفاضات الشعبية. الواقع أنَّ الصرح الحالي هو نسخة أعيد بناؤها من المبنى الذي احترق تمامًا أثناء ثورة كومونة باريس عام 1871. يمثِّل قصر بلدية باريس التوتر بين العظمة المؤسسية والروح الثورية التي تكمن في قلب العاصمة الفرنسية.
كان ميسيكا مدركا لهذا التوتر ــ ورفض الانحياز إلى أيٍّ من الجانبين. نظرًا لخلفيته، قد لا يكون هذا مستغربًا. ولِد ميسيكا لأسرة جزائرية يهودية، وعمل في السابق أستاذًا في معهد العلوم السياسية في باريس، مدرسة الصفوة للعلوم السياسية في المدينة. كان أيضًا مستشارًا سابقًا لرائد الأعمال خافيير نيل الذي أظهر ميلًا إلى الإبداع المعطل للأنماط القديمة، والذي انعكس في مشاريع مثل الحاضنة البادئة Station F، و École 42، وهي أكاديمية برمجة الكمبيوتر التي تعمل بلا معلمين.
عندما تولى منصبه كنائب لعمدة مدينة باريس، كان ميل ميسيكا إلى تجاوز الخط بين المؤسَّسات ومعارضيها لا يزال واضحًا. قال لي أثناء لقائنا، وفي عينه بريق وهو يقف وسط الأعمال الخشبية العتيقة في قصر بلدية باريس: "لم تعد باريس تبدع في فن الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري. نحن نخسر الأرض لصالح لندن. إنَّ المطورين العقاريين لدينا شديدو التحفظ؛ لقد استمروا في الخروج علينا بنماذج عتيقة. يتعين علينا أن نفعل شيئا! يجب أن نتحرك!".
ثمَّ وصف ميسيكا مبادرته المقترحة. وأوضح أنَّ المدينة كانت على وشك نقل ملكية ما قيمته مئات المليارات من اليورو من العقارات. ولكن بدلًا من بيعها للمطورين، الذين كانوا ليحظوا بحرية التحكم في كيفية استخدامها، خطط ميسيكا لإطلاق دعوة مفتوحة لتقديم الأفكار ومقترحات المشاريع، التي يجب أن تقدَّم عبر الإنترنت من قِـبَـل متخصصين محترفين ومواطنين عاديين على حدٍّ سواء. وكان المفترض أن يجري اختيار المشاريع الأكثر إبداعًا وتنفيذها في أكثر من عشرين موقعًا.
أُطـلِـق على المشروع مسمّى "إعادة اختراع باريس" ــ وهو عنوان مناسب، ليس فقط لأنه سعى إلى إعادة اختراع المدينة، بل وأيضًا لأنه كان مثابة إعادة اختراع لعملية التخطيط. وكان التوقيت مناسبًا تمامًا: حيث تعهدت عمدة المدينة المنتخبة حديثًا آن هيدالجو، التي كانت مسؤولة عن تعيين ميسيكا، تصعيد الحرب التي تخضوها المدينة ضد تغيُّر المناخ. وعلى هذا فقد أدرجت الدعوة المفتوحة الأولى، التي أُطـلِـقَـت بعد بضعة أشهر من لقائنا، الحتميات البيئية ــ مثل الترويج للإسكان المشترك، والتدوير، والزراعة الحضرية ــ في المبادئ التوجيهية لمقترحها.
في البداية، خدمت في إحدى لجان التحكيم ــ التي اختارت مشروعًا يسمّى "الألف شجرة"، والذي قدَّمه المهندس الياباني سو فوجيموتو. من المقرر أن يكون مبنى متعدد الأغراض، حيث يضم مساحة للسكن، والمكاتب، والمراكز الثقافية ــ فضلًا عن جسر يعبر الطريق الدائري الذي يشكل دائرة حول باريس. وسوف يشتمل على مساحة تكفي لزراعة أكثر من ألف شجرة.
سيكون المبنى القائم على أعمدة والمغطى بالنباتات إنجازًا معماريًّا مذهلًا، وقد نالت الخطة التي حظيت بدعاية واسعة النطاق إشادة عالمية. لكن التصميم شيء والتنفيذ شيء آخر. حتى يومنا هذا، لا يزال المشروع معطلًا، تعرقله الالتماسات والبيروقراطية الفرنسية.
منع مجلس الدولة التابع للحكومة الوطنية مقترحات أخرى من مبادرة إعادة اختراع باريس. كما نصبت جمعيات المواطنين الحواجز، واعتبرت المشروع حيلة تسويقية بارعة تهدف إلى التعتيم على خصخصة الأراضي العامة على نطاق واسع وبلا رجعة. كما انتقدت هذه الجمعيات ميسيكا شخصيًّا لأنه يتمتَّع بقدر أكبر مما ينبغي من السيطرة على العملية.
مع ذلك، بعد طول انتظار، بدأت مبادرة إعادة اختراع باريس تؤتي ثمارها. فقد أصبحت عدة مشاريع اختيرت قبل خمس سنوات قيد الإنشاء الآن. ولعلَّ المشروع المفضَّل لدي هو "Morland Mixité Capitale"، الذي سيحوَّل مبنى شرطة باريس الجسيم الضخم إلى مجمع متعدد الاستخدامات يرتفع نحو السماء. وسوف يضمُّ مكاتب ومساكن، وفندقًا ومركز لياقة، وساحات مليئة بالخضرة ومساحات للزراعة الحضرية، وبار على السطح ومطعم محاط بنحت بانورامي للفنان الأيسلندي أولافور إلياسون.
علاوة على ذلك، ألهمت مبادرة إعادة اختراع باريس موجة من برامج التخطيط الحضري الأخرى. بحلول وقت إطلاق الجولة الثانية، جرى استكمالها بمشروع إعادة اختراع السين (الذي يسعى إلى إيجاد استخدامات جديدة لقطع من الأرض على طول مجرى النهر)، ومشروع إعادة اختراع ما تحت باريس (الذي يهدف إلى تحويل أنفاق السيارات والمساحات تحت الأرض)، ومشروع اختراع العاصمة (الذي يغطي منطقة العاصمة الأوسع).
ألان، وصل مفهوم ميسيكا إلى المسرح الدولي. فقد أطلقت الشبكة العالمية لرؤساء المدن، C40 Cities، المكرسة للعمل المناخي والتي تشارك فيها هيدالجو، مبادرة إعادة اختراع المدن، والتي ربما تكون أكبر مسابقة دولية في التخطيط الحضري والإبداع على الإطلاق، وهي في جولتها الثالثة الآن.
بالفعل، اختارت مبادرة إعادة بناء المدن عشرات المشاريع لدعمها، من أوكلاند إلى كيب تاون ومن دبي إلى فانكوفر. بين هذه المشاريع "كرم العنب على الأسطح والممشى العام" بجوار المقر الرئيس لمؤسسة برادا في ميلانو، والذي تقدمت به شركة التصميم والإبداع التي أمتلكها.
لا أدرى ما إذا كان ميسيكا توقع عندما التقينا أول مرة في قصر بلدية باريس أن يكون لمبادرة إعادة اختراع باريس مثل هذا التأثير العالمي العميق. أعتقد أنَّ الزخم الذي اكتسبته هو علامة على العصر. لقد عملت شبكة الإنترنت على تسهيل قدر غير مسبوق من التفاعل بين المصممين والمواطنين، الأمر الذي أفضى إلى تمكين الأفكار الإبداعية من الظهور والانتشار بسرعة أكبر من أي وقت مضى. وربما يكون التفاعل بين العالمين الافتراضي والمادي الذي يستند إليه النجاح الذي حقَّقه نهج ميسيكا المفتاح الحقيقي لتتبع الإبداع الحضري. وأقول للمدن في مختلف أنحاء العالم: "يجب أن نتحرَّك!"
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
كارلو راتي، مدير مختبر سينسبل سيتي (Senseable City Lab) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو المؤسِّس المشارك للمكتب الدولي للتصميم والإبداع "Carlo Ratti Associati".
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org