البيئة: مسؤولية مجتمعية وركيزة إيمانية
الواقع يعطي دليلاً واضحاً بأن الرسول الكريم هو رائد من رواد الحفاظ على البيئة
الكون حولنا من سماوات وأرضين ومجرات وكواكب شاهد على عظمة الخالق سبحانه وتعالى في صنعه، وإبداعه في خلقه، فكل ما حول الإنسان هو آيات ناطقة على وجود وقدرة وحكمة الخالق العظيم والمبدع الحكيم جل وعلا. والإسلام دين العلم والمعرفة، دين التفكر والتدبّر والسياحة في الملكوت العظيم، الذي جاءت آيات القرآن الكريم لتحث عليه وتؤكد أهميته في ولوج العبد في مقام اليقين بأن الله سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
تركِّز فرانسيسكا دو شاتِلْ، الصحفية الهولندية والكاتبة المتخصصة في أنثروبولوجيا الثقافة الإسامية، في مقال بعنوان: «محمد رائد الحفاظ على البيئة » على عنصر الحفاظ على البيئة الذي أكدته نصوص الآيات الكريمة والأحاديث النبوية المطهرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ».
وهنا تبين أن الواقع يعطي دلياً واضحاً بأن محمداً (عليه الصلاة والسلام) هو رائد من رواد الحفاظ على البيئة. وهذا وإن كان، بحسب ما تقوله فرانسيسكا، سوف يقع في آذان الكثيرين في البداية موقعاً غريباً، إذ لا شك أن مصطلح «الحفاظ على البيئة » وما يرتبط به من مفاهيم مثل «البيئة » و"الوعي البيئي » و"ترشيد الاستهلاك » هي ألفاظ من اختراع العصر الحديث، أي مصطلحات صيغت لتواجه الاهتمامات المتزايدة بالوضع الراهن لعالم الطبيعة من حولنا؛ ومع ذلك فإن قراءة الأحاديث النبوية عن قرب، أي تلك الروايات المتعلقة بالأحداث الهامة في حياة محمد، تضعنا أمام صورة واضحة بأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) كان من أشد المنادين بحماية البيئة.
بل إن بمستطاعنا القول إنه كان في نصرته للبيئة سابقاً لعصره، أي رائداً في مجال المحافظة على البيئة والتطور الرشيد والإدارة الحكيمة للموارد الطبيعية، وواحداً من الذين يَسْعَوْن لإقامة توازن متناسق بين الإنسان والطبيعة.
المبادئ الثلاثة
وتضيف الكاتبة الهولندية أن فلسفة محمد البيئية هي أولاً وقبل كل شيء فلسفة شاملة مترابطة، إذ تقوم على أن هناك صلة أساسية وارتباطاً متبادلاً بين عناصر الطبيعة، كما أن نقطة انطلاقها هي الإيمان بأنه إذا أساء الإنسان استخدام عنصر من عناصر الطبيعة أو استنزفه استنزافاً فإن العالم الطبيعي برُمّته سوف يضارّ أضراراً مباشرة. على أن هذا الاعتقاد لا يُنَصُّ عليه في حديث واحد نصاً مباشراً، بل يمثل المبدأ الذي تنهض عليه جميع أقوال محمد وأفعاله. إنه فلسفة حياته التي على ضوئها نستطيع أن نبصر ملامح شخصيته.
وتقول: «إن أهم ثلاثة مبادئ في الفلسفة المحمدية المتعلقة بالطبيعة تقوم على تعاليم القرآن ومفاهيم الوحدانية وخلافة البشر والثقة في الإنسان. ويمثل التوحيد حجر الزاوية في دعوة الإسلام، وهذا التوحيد يراعى الحقيقة التي تقول بوجود خالق واحد للكون، وأن الإنسان مسؤول أمامه عن أعماله .
يرى الإسلام أن الإساءة إلى أي
مخلوق سواء حي أو مصدراً
طبيعي ذنب من الذنوب يجازَى
الإنسان عليه
وهنا تؤكد فرانسيسكا أن النبي الكريم يقر الإساءة إلى أي مخلوق، سواء كان كائناً حياً أو مصدراً من مصادر الطبيعة، ذَنْبًا من الذنوب يجازَى الإنسان عليه. وفى اعتقاده أن جميع مخلوقات الله متساوية أمامه سبحانه، وأن الحيوانات، وكذلك الأرض والغابات وينابيع المياه، ينبغي أن يكون لها حقوق تُحْتَرَم.
قيمة الإنسان
الخلافة البشرية والثقة بالإنسان، برأي الكاتبة، هما مفهومان ينبعان من مبدأ الوحدانية. ويوضح القرآن أن الإنسان يتمتع بوضع متميز بين مخلوقات الله على الأرض، إذ اصطفاه ليكون خليفة فيها وينهض بمسؤولية العناية بغيره من مخلوقات هذا الكوكب. وهذا واجب كل فرد فينا ووجه تميُّزه. ورغم هذا نرى القرآن مراراً وتكراراً ينهى الإنسان عن الكِبْر منبهاً إياه إلى أنه ليس أفضل من سائر المخلوقات: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلّأُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38 ).
ويعترف محمد بمسؤولية الإنسان أمام ربه، بيد أنه كان دائماً وأبداً يدعو إلى التواضع، ومن ثَمّ نراه يقول: «إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها »، فهو هنا يبين أنه، حتى عند انتفاء كل أمل لدى البشر، على الفرد أن يحافظ على نمو الطبيعة. لقد كان مؤمناً بأن الطبيعة حسنة في ذاتها حتى لو لم يستفد البشر منها.
وبالمثل نراه يحض أتباعه على التشارك في موارد الطبيعة، إذ يخاطبهم قائلاً: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار ». كما يعد حرمان العطشان من الماء إثماً يعاقَب عليه: «من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة».
الاستخدام الرشيد
أما ترشيد الاستعمال للموارد، فإنه وإن كان مصطلحاً ينادى به في هذا العصر، فإنه كان، بحسب الكاتبة الهولندي، واقعاً وموقفاً ثابتاً في حياة النبي الكريم، فالاستعمال الرشيد للأرض والمحافظة على الماء والطريقة التي كان يعامل بها الحيوانات هو دليل آخر على التواضع الذي يصبغ فلسفته حول البيئة. وقوله: «جُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » يؤكد الطبيعة المقدسة للأرض أو التربة، لا بوصفها ذاتاً طاهرة فحسب، بل بوصفها مادة مُطَهِّرة كذلك. ويَظْهَر أيضاً هذا الاحترامُ لأرض في شعيرة التيمم التي تجيز للمسلم استعمال التراب في الطهارة الواجبة عند الصلاة في حالة فقدان الماء.
ولم يشجع محمد فقط الاستعمال الرشيد لأرض، بل لفت أنظار أتباعه أيضاً إلى المكاسب التي يجنيها الإنسان من إحياء الأرض البور، إذ جعل زرع شجرة أو غرس بذرة أو سَقْي أرض عطشى من أعمال البر والإحسان: «من أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر ». وعلى هذا فأيما شخص ساق الماء إلى قطعة أرض قاحلة فهي له.
معاملة الحيوانات
تذكر الكاتبة فرانسيسكا دو شاتِلْ قول الرسول الكريم: «من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة ». وتقول: إنه حديث يعكس إجلال محمد واحترامه وحبه للحيوانات. ذلك أنه كان يعتقد أنها، بوصفها خلقاً من خلق الله، ينبغي أن تحظى بمعاملة كريمة، ففي الأحاديث النبوية عدد ضخم من الروايات والتوجيهات الخلقية والقصص التي ترسم لنا صورة عن علاقته بالحيوانات. وحتى في ذبح الحيوان نجده يبدي قدراً عظيماً من الرقة والرحمة. وعلى الرغم من أنه لم يكن نباتياً فإن الأحاديث تبين لنا بوضوح أنه كان حساساً للغاية تجاه معاناة الحيوانات حتى لكأنه كان يشاركها ألمها مشاركة وجدانية. ومن هنا نجده يأمر باستعمال سكين حاد في الذبح واتباع طريقة مسؤولة من شأنها أن تزهق روح الحيوان سريعاً بحيث يخف ألم الذبيحة إلى أقصى درجة ممكنة. كما نهى عن ذبح أي حيوان أمام غيره من الحيوانات أو إحداد الشفرة بحضرته، وقال مستنكراً لمن يفعل ذلك: «أتريد أن تميتها موتتين؟ هلّ أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟ .
المحافظة على الماء
وتضيف فرانسيسكا أنه في البيئة الصحراوية الخشنة التي كان يعيش فيها محمد يُعَدُّ الماء مرادفاً للحياة، فهو نعمة من الله، بل هو أصل الحياة كما يشهد بذلك القرآن: ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ (الأنبياء: 30 ). ويذكِّر القرآن المسلم على الدوام بأنه خليفة الله في الأرض، لكن لا ينبغي له مع ذلك أن يأخذ الأشياء المخلوقة على أنها أمرٌ مسلَّمٌ به:
﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ (الواقعة: - 68 70 ).
تعكس حياة النبي عليه الصلاة
والسلام إجلاله واحترامه وحبه
للحيوانات بوصفها خلق من
خلق الله ينبغي أن تحظى
بمعاملة كريمة
كذلك كان الاقتصاد في الماء والمحافظة على طهارته قضيتين مهمتين عند محمد. ولقد رأينا كيف أدى اهتمامه بالاستخدام الرشيد للماء إلى إقامة المحميات بالقرب من ينابيعه. وحتى عندما يكون الماء متوافراً نراه ينصح بالاقتصاد في استعماله. ومن ذلك نهيه عن غسل أعضاء الوضوء أكثر من ثلاث مرات حتى لو كان المتوضئ على نهرٍ جارٍ. ويضيف البخاري قائلاً: «وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ». وبالمثل نهى محمد عن تلويث المياه، وذلك بمنع التبول في الماء الراكد.
وختاماً، ترى الكاتبة فرانسيسكا دو شاتِلْ أنه من المستحيل إيفاء المدى الذي بلغته فلسفة محمد البيئية، وكذلك الأهمية التي تستأهلها، حقهما في هذه المقالة القصيرة، فرؤيته الشاملة للطبيعة وفهمه لمكان الإنسان داخل العالم الطبيعي هما رؤية وفهم رائدان في مجال الوعي البيئي لدى المسلمين.