إضاءة شعرية (الجزء الأول)

  • 4817

1) قال الحطيئة في بني أَنْفِ الناقة:

قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ والأَذْنابُ غَيْرُهُمُ        ومَنْ يُسَوِّي بأَنْفِ الناقةِ الذَّنَبا

بيت من الشعر كان بمثابة دعاية إعلامية متفرّدة لرفع مكانة بني أنف الناقة بين العرب، ومحو سبب مذلتهم، فقد كان بنو حنظلة بن قُريع بن عوف بن كعب يقال لهم بنو أنف الناقة، وكانوا يسبون بهذا الاسم في الجاهلية؛ لأنَّ أباهم نحَر جَزورًا وقسّم اللحم، فجاء حنظلة، وقد فرغ اللحم وبقِيَ الرأس، وكان صبيًّا، فجعل يجره؛ فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلُقِّب به، وكانوا يغضبون منه، غير أنَّ الأمر أصبح مفخرةً لهم بعد قول الحطيئة هذا البيت.

 

2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ قولُ لبيد:

ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطِلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائِلُ

ولما سمع عثمان بن مظعون رضي الله عنه لبيدًا ينشد ذلك البيت، صدَّقه في الشطر الأول، وقال له بعد سماعه الشطر الثاني: كذبت فإنَّ نعيمَ الجنة لا يزول.

 

3) كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يردِّد قول زهير بن أبي سلمى:

وإنَّ الحقَّ مَقْطَعُه ثَلاثٌ ... يَمِينٌ أو نَفارٌ أو جِلاءُ

فَذَلكُمُ مقاطِعُ كُلِّ حَقٍّ ... ثَلاثٌ كُلُّهنَّ لكمْ شِفاءُ

وكان يعجب بمعرفته بمقاطع الحقوق وتفصيلها، وإنما أراد: مقطع الحقوق يمين أو حكومة أو بينة.

 

4) أراد سيبويه شاهدًا على إعمال صيغة (فَعِل) فسأل الشاعر أبان بن عبد الحميد اللاحقي عن ذلك فصنع له هذا البيت:

حَذِرٌ أمورًا لا تضير وآمن ... ما ليس مُنْجيَهُ من الأقدارِ

وقد أصبح من شواهد العربية برغم أنه مصنوع لاستشهاد سيبويه به في كتابه.

 

5) دخل أعرابي فصيح على الخليفة عبد الملك بن مروان، ودار حديث طويل، فسأله عبد الملك: من أنت؟ قال: أنا رجلٌ من أخوالك بني عذرة، قال عبد الملك: أولئك من أفصح العرب، فهل لك من معرفةٍ بالشعر؟ قال الأعرابي: سل عمّا بدا لك يا أمير المؤمنين.

قال: أي بيتٍ قالت العرب أمدح؟

قال: قول الشاعر:

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا ... وَأَنْدَى العالَمِيْنَ بطونَ راحِ؟

وكان جرير في القوم، فتحرّك ورفع رأسه.

قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أفخر؟

قال: قوله:

إذا غضِبْتْ عليْكَ بَنو تَميمٍ ... وَجَدْتَ النّاسَ كلَّهُمُ غِضَابَا

فتحرك جرير وتطاول.

ثم قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أهجى؟

قال: قوله:

فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُميرٍ ... فلا كَعبًا بَلَغْتَ وَلاَ كِلابَا فتحرك جرير.

قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أحسن تشبيهًا؟

قال: قوله:

سَرَى لَهُمُ لَيلٌ كأَنَّ نجُومَهُ ... قَناديلُ فيهنّ الذُّبالُ المُفتَّلُ

قال: فقال جرير: أصلح الله شأن أمير المؤمنين، جائزتي لأخي عذرة، فقال عبد الملك: ومثلها معها.

وكانت جائزة جرير عند الخلفاء أربعة آلافٍ وما يتبعها من كسوةٍ، فخرج الأعرابي وفي يده اليمنى ثمانية آلافٍ وفي يده اليسرى رزمة ثياب.

 

6) كَانَ الْحَارِث بن وَرْقَاء الصَّيْدَاوِيُّ من بني أسيد أغار على إبل زُهَيْر بن أبي سُلمى، فَذهب بهَا وبراعيها يسَار فَجعل زُهَيْر يهجوه ويتهدده بقَوْله:

يَا حَار لَا أرمينْ مِنْكُم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي وَلَا ملك

ارْدُدْ يسارًا وَلَا تعنف عَليّ وَلَا ... تَمْعَكْ بعرضِك إِنَّ الغادرَ المَعِك

فردَّ عليه ما سلب.

 

7) هجا الحطيئةُ الزبرقان بن بدر بقوله:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فشكاه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحكَّمَ عمرُ حسان بن ثابت فقال حسان: لم يهجه ولكن سلح عليه، فحبسه عمر، فقال الحطيئة في حبسه يسترق عمر:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر

فرقَّ له عمر وخلّى سبيله، وأخذ عليه ألّا يهجو أحدًا من المسلمين.

 

8) كان ابن دانيال شاعرًا وكحَّالًا (طبيب عيون) يجلس بباب الفتوح بمصر، وهو من أعلام القرن السابع الهجري، وفي شعره ظرف وتورية وتنكيت، فسأله يومًا سائلٌ لا يعرفه: ما حرفتُك؟ وبأي شيء تتكسَّب؟ فقال:

يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وا ضيعتي فيهم وإفلاسِي

ما حال مَن درهمُ إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس

فاحتمل قوله "أعين الناس" أنَّ الناس تنظر في دراهمه فلا ينتفع بها، أو أنه يأخذها بغير رضاهم، وإن كان يقصد حرفته من معالجة "أعين الناس".

 

9) كانت بين أمير الشعراء أحمد شوقي والدكتور محجوب ثابت علاقةُ ودٍّ طيبة، وكان لدى الدكتور محجوب حصانٌ يُسمّى (مكسويني) [اسم بطل أيرلندي انتحر جوعًا]، أطلق عليه ذلك أصدقاؤه كنايةً عن هزال الحصان وعدم العناية به، فاشترى الدكتور محجوب سيارة بدلًا منه، فقال شوقي في ذلك:

لكم في الخط سيارة ... حديث الجار والجارة

إذا حركها مالت ... على الجنبين منهارة

وقد تحزن أحيانا ... وتمشي وحدها تارة

ولا تُشبعها عين ... من البنزين فوّارة

 

10) ذات مرة بات محمد بن يحيى النحوي المشهور بالقلفاط عند الحكيم محمد بن إسماعيل حتى كادت الشمس تشرق، فانتبه القلفاط، وقال يمازح الحكيم:

يا ديك ما لك لم تصرخ لتنبهنا ... لقد أسأت بنا ديك الدجاجات

يا آكلًا للقذى يا سارحًا عبثًا ... على الحصير بهِيميَّ البهيمات

فأجابه الحكيم من فوره مرتجلًا:

لقد صرختُ مرارًا جمةً عددًا ... قبل الصباح وبعد الصبح تاراتِ

لكن علمتُك نوامًا وذا كسلٍ ... قليل ذكرٍ لجبّار السماواتِ

 

11) استودع امرؤ القيس بن حجر دروع أجداده عند السموأل الشاعر، حتى يذهب إلى قيصر الروم يستنجده على الأخذ بثأر أبيه، فجاء ملك كندة يطلب ما تركه امرؤ القيس عند السموأل، فأبى، فحاصر السموأل في حصنه، وكان ابن للسموأل خارجًا للصيد، فلما جاء أمسك به الملك مهددًا به أباه، فأبى السموأل وقال:

وَفَيتُ بِأَدرُعِ الكِندِيِّ إِنّي ... إِذا ما خانَ أَقوامٌ وَفَيتُ

وَقالوا إِنَّهُ كَنزٌ رَغيبٌ ... فَلا وَاللَهِ أَغدِرُ ما مَشَيتُ

 

12) غضب الفرزدق يومًا من زوجته نوار، فطلقها، ثمَّ ندم على ذلك، وقد صارت عليه حرامًا، فقال في ذلك:

نَدِمتُ نَدامَةَ الكُسَعِيِّ لَمّا ... غَدَت مِنّي مُطَلَّقَةٌ نَوارُ

وَكانَت جَنَّتي فَخَرَجتُ مِنها ... كَآدَمَ حينَ لَجَّ بِها الضِرارُ

والكُسَعِيُّ رجلٌ يُضْرَبُ به المثل في الندامة.

 

13) من أفضل ما قال صور شاعر في النصح والأمر بالبعد عن المعاصي ومراقبة النفس - قول أبي العتاهية:

إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَومًا فَلا تَقُل ... خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيّ رَقيبُ

وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يُغفِلُ ما مَضى ... وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيهِ يَغيبُ

 

14) حجَّ الخليفة عبد الملك بن مروان ومعه الفرزدق، فبينما هو قاعد بمكة في الحجر إذ مرَّ به علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقال عبد الملك: مَنْ هذا يا فرزدق؟ فأنشأ يقول:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلُّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريشٌ قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

وليس قولك مَنْ هذا بضائره ... العُرْبُ تعرفُ من أنكرتَ والعَجَمُ