هل ستنقذ الجائحة البشرية ؟

مارك لايناس

هاي اون واي – لقد قتل كوفيد-19 أكثر من 500 ألف شخص في العالم، وجعل ملايين الناس مرضى، ولا يزال يعيث دماراً ولكن وكما يقول المثل – وبدون الرغبة في التقليل من هذه المأساة الإنسانية بأي شكل من الأشكال- حتى الرياح السيئة تأتي أحياناً بالنتائج الطيبة، ولو قمنا بعمل الخيارات الصحيحة، بينما يخفف العالم من إجراءات الإغلاق، فإنَّ من الممكن أن تكون هذه الجائحة بمثابة طوق نجاة للبشرية، وذلك من أجل التعامل مع تحدٍّ أكبر بكثير وهو التغير المناخي.

قبل أن يضرب فيروس كورونا المستجد العالم؛ فإنَّ النشطاء من أمثالي كانوا فقد فقدوا الأمل بأنَّ العالم سيحقق هدف اتفاقية باريس للمناخ، وهو الحد من الاحتباس الحراري بحيث لا يزيد على 1،5-2 درجة مئوية فوق مستوى ما قبل الصناعة، وعوضاً عن ذلك كان يبدو أنَّ العالم سوف يسخن بمقدار 3-4 درجة مئوية.

لو حصل ذلك لوقعت كارثة كوكبية ولفقدنا جميع الشعب المرجانية وغالبية الغابات المطيرة،  ولكانت العديد من الأماكن الأكثر اكتظاظًا بالسكان ستصبح حارة بشكل لا يطاق، إضافة إلى هبوط الإنتاج الغذائي بشكل حاد، مما كان سيهدد بحدوث المجاعات بينما تفشل المحاصيل في المناطق التي تعدُّ سلال خبز العالم.

لكن الآن يمكننا تجنُّب وقوع مثل تلك الأحداث، فلقد أجبرنا فيروس كورونا المستجد على إغلاق الاقتصادات، لدرجة حصول انخفاض حاد في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ولقد رأينا جميعاً الدليل على ذلك من حيث السماء الأكثر زرقة والمدن الخالية من الضباب الدخاني، إضافة إلى المشاة ومستخدمي الدراجات الهوائية، وهم يحلون مكان السيارات الملوثة للبيئة. يقدّر العلماء أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية ستنخفض بنسبة لا تزيد على 7% هذا العام، وأن المحافظة على هذا المستوى من الانخفاض في الانبعاثات السنوية سيضع العالم مجدداً على المسار الصحيح من أجل تحقيق هدف 1،5-2 درجة مئوية، وهذا بدوره سينقذ الشُّعب المرجانية والغابات المطيرة ويتجنَّب أزمة لاجئين عالمية، ويحد من الارتفاع في مستوى سطح البحر، وسيبقي غالبية الغطاء الجليدي في القطب الشمالي في حالة تجمُّد.

لكن بينما أعطتنا أزمة كوفيد-19 فرصة غير متوقعة تتعلَّق بالمناخ، فإنَّ من البديهي أنه ليس باستطاعتنا أن نبقي على الإغلاق للأبد؛ فملايين الناس أصبحوا بلا عمل حالياً، علماً أن إغلاق اقتصادي طويل الأمد سيكون له تأثير مدمر في سبل العيش، بحيث يقع غالبية هذا العبء على الفقراء.

لحسن الحظ فإنَّ الخيار الذي نواجهه ليس بين الانهيار الاقتصادي وانهيار المناخ، ومن محاسن الصدف أن العالم يحتاج بشكل عاجل إلى استثمار تريليونات الدولارات في التخلي عن الكربون. وفي الوقت نفسه فإنَّ الاقتصاد العالمي كذلك يحتاج بشكل عاجل إلى تحفيز ضخم من أجل إعادة الناس إلى سوق العمل.

ومن أجل المساعدة على تمويل مثل تلك الإجراءات، فإنَّ هناك بلداناً مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة يتوجب عليها إصدار سندات حكومية طويلة الأمد، على أن يكون أجل الاستحقاق 50 سنة أو حتى 100 سنة. ومع وجود أسعار فائدة سالبة على الدين الحكومي لبعض الاقتصادات المتقدمة، فإنَّ بإمكان وزارات المالية في تلك الدول جمع مبالغ ضخمة من الأموال بتكلفة منخفضة جداً على المدى القصير، ونظراً لأنَّ الانكماش حالياً يعدُّ خطراً أكبر بكثير من التضخم، فإنَّ إيجاد أموال إضافية من خلال إصدارات السندات سوف يساعد على تجنُّب ركود اقتصادي عالمي محتمل.

قد يعترض البعض لأسباب أخلاقية على قيام الحكومات باقتراض الأموال التي يتوجب على أبنائنا وأحفادنا تسديدها، ولكن إصدار دين عام على المدى الطويل للتعامل مع تحدٍّ على مستوى حضارة بأكملها لا يعدُّ أمراً غير مسبوق. إن المملكة المتحدة على سبيل المثال دفعت آخر قسط متبقٍّ من ديونها من الحرب العالمية الأولى في سنة 2014، والمواطنون البريطانيون اليوم هم أغنى بخمسة أضعاف للفرد مقارنة بالجيل الذي شارك في تلك الحرب. وإذا افترضنا استمرار النمو الاقتصادي خلال القرن المقبل، فإنَّ أحفادنا سيصبحون في وضع مادي أفضل، مما سيخفِّف من أعباء خدمة الدين المستقبلية.

 لقد كانت غريتا ثونبيرغ والملايين من نشطاء المناخ الذين شاركوا بالإضراب حول العالم محقِّون في استخدام أسلوب الحث والمناشدة من أجل إقناع قادة اليوم أن يأخذوا على محمل الجد مصالح الأجيال القادمة، ولكن الآن يجب علينا أن نركّز على البعد المالي للموضوع.

إن مكافحة التغير المناخي تتطلَّب استثمارات تحتاج لرؤوس أموال ضخمة. بادئ ذي بدء، فإنَّ التحقُّق من جود مناخ صالح لحياة البشر في النصف الثاني من هذا القرن يتطلَّب تعزيز تقنيات الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بشكلٍ كافٍ وذلك حتى تحلَّ مكان الوقود الأحفوري كمصادر رئيسة للطاقة الأولية.

إضافة إلى ذلك نحن بحاجة لإنتاج الوقود السائل، وعلى الأرجح الأمونيا والهيدروكربونات الاصطناعية، على نطاق أكبر من الطاقة الكهربائية وذلك من أجل التوقُّف عن استخدام الكربون في الشحن والطيران والعمليات الصناعية مثل صناعة الصلب. إنَّ التقنيات النووية من الجيل القادم مثل المفاعلات المعيارية المتقدمة سوف تلعب دورا أساسياً في تلك الجهود.

الاستثمارات الرئيسة في البنية التحتية هي استثمارات طويلة الأمد بطبيعتها، حيث لا بدَّ أن تنخفض تكلفة رأس المال لو تمكَّنت التقنيات النظيفة من التغلُّب على منافسة الوقود الأحفوري. وبإمكان الحكومات اقتراض المبالغ المطلوبة بأسعار أقل بكثير من القطاع الخاص والاستثمارات الناتجة عن ذلك، سوف تخلق ملايين الوظائف لاستبدال الوظائف التي فقدت في الصناعات القذرة والمساعدة على إعادة إحياء الاقتصاد العالمي بعد الجائحة.

لقد أصدرت الحكومة البريطانية بالفعل سندات بقيمة 72 مليار جنيه إسترليني (90 مليار دولار أمريكي) مع استحقاق آجل لمدة 50 عاماً أو أكثر علماً أنه سوف يستحق للدفع ابتداء من سنة 2055. إنَّ المملكة المتحدة وبلدان أخرى يمكنها أن تصدر ضعف مثل هذا الدين بخمسين مرة - 3-4 تريليونات جنيه إسترليني (3،7-5 تريليونات دولار أمريكي) قابلة للاسترداد في وقت لاحق من هذا القرن، للمساعدة على تمويل الاستثمار المطلوب للتغلُّب على تحدي المناخ.

إن مثل هذه السندات طويلة الأمد قد تكون من الأصول الآمنة لصناديق التقاعد وغيرها من الجهات الاستثمارية طويلة الأمد، حيث تمنح هذه السندات تلك الجهات الفرصة للتخلي بشكل دائم عن الاستثمار في الوقود الأحفوري وفي واقع الأمر لن تكون هناك أصول "آمنة" في عالم من التغير المناخي المتصاعد.

أنا لا أقترح أنه يتوجب على الحكومات أن تدعم مالياً التقنيات النظيفة إلى ما لا نهاية ، بل التحدي هو تخفيض تكلفتها -كما تحقق بنجاح بالنسبة للطاقة الشمسية - وذلك من خلال الأبحاث والتطوير واستخدامها مبكراً على نطاق واسع، وذلك حتى تصبح التقنية النظيفة أرخص من الوقود الأحفوري، وتصبح العملية الانتقالية المتعلقة بالطاقة مستدامة ذاتياً.

إنَّ أزمة كوفيد-19 قد جعلت الاعتبارات المناخية والاقتصادية تتقاطع معاً مقارنة بأي وقت مضى. لو اغتنمنا الفرصة التاريخية فإنَّ من المؤكد أنَّ الأجيال القادمة ستتذكَّر عام 2020 على أنه العام الذي تمكَّنت فيه البشرية من هزيمة الجائحة وإنقاذ الكوكب.

 

مارك لايناس، مؤلف علماً أن كتابه الأخير هو تحذيرنا الأخير: ست درجات من الطوارئ  @mark_lynasالمناخية، ويمكن متابعته على تويتر عبر:

 

حقوق النشر: بروجيكت سنديكت، 2020
www.project-syndicate.org