الجائحة تكشف عن ضرورة تحويل الزراعة العالمية

ماوريسيو كارديناس، وخوان لوكاس ريستريبو

نيويورك/ روما- ينبغي أن تحثَّنا جائحة كوفيد-19 على إعادة صياغة الطريقة التي نطعم بها البشر. فالعالم يتمتَّع الآن بفرصة فريدة لاعتماد تدابير طويلة الأجل، من أجل النهوض بالأنظمة الغذائية الصحية، وتشجيع المزارعين على إنتاج مجموعة أوسع من المواد الغذائية، وتعزيز التعاون بين قطاعات الصحة العامة، والغذاء، والزراعة. ويمكن للبحوث الزراعية أن تضطلع بدور حيوي في إحداث تحوُّل في النظم الغذائية، وجعلها أكثر استدامة ومرونة.

إنَّ الحاجة إلى التغيير تتضح من خلال العديد من الأمور. أولاً، تعدُّ الأنظمة الغذائية غير الصحية واحدة من عوامل المخاطر الرئيسة المتعلقة بوفيات كوفيد-19. ويؤثر فيروس سارس- كوف-2 بصورة غير متناسبة في الأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن، أو مرض السكري، أو الذين يعانون من أمراض القلب والأوعية الدموية- وكلها مرتبطة بالنظام الغذائي الضعيف.

وقد كشفت هذه الأزمة أيضاً عن الضعف الشديد لنظام الغذاء العالمي. إذ أدت إجراءات التباعد الاجتماعي، والإغلاق بهدف الحد من انتشار الفيروس، إلى انخفاض كبير في دخول الناس، ومن ثمَّ تراجع الطلب العالمي على الغذاء. وخَلَّف ما ترتب عن ذلك من انخفاض في أسعار المواد الغذائية بين يناير/كانون الثاني ومايو/أيار 2020، أثرا ًكبيراً في مصدر عيش مئات الآلاف من صغار المزارعين حول العالم.

وفضلاً عن ذلك، أدّى إغلاق المطاعم والمدارس، والاضطرابات اللوجستية، ونقص العمالة الوافدة من أجل حصاد المحاصيل، إلى إهدار كميات هائلة من المنتوج الزراعي. ويزداد عدم اليقين لدى العديد من المزارعين بشأن بدء دورة محصول جديدة، على الرغم من ازدهار بعض المنتجين ذوي القدرة التنافسية العالية: فعلى سبيل المثال، وصلت صادرات البرازيل من فول الصويا إلى الصين إلى مستوى قياسي في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2020.

ولكن نظراً إلى هشاشة النظام الغذائي، فإنَّ أيَّ انكماش إضافي في العرض، أو أي قيود على الصادرات يمكن أن يعكسَ اتجاهات الأسعار الأخيرة بسرعة. ويمكن أن ترتفع أسعار الغذاء ارتفاعا ًكبيراً، مما سيزيد من تقويض الأمن الغذائي العالمي.

وفي الواقع، حسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، يمكن أن يصاب ما لا يقل عن 14.4 مليون شخص في 101 دولة مستوردة صافية للأغذية، بنقص التغذية نتيجة للأزمة الاقتصادية الناجمة عن كوفيد-19. وفي أشد السيناريوهات تطرفاً- انخفاض بعشر نقاط مئوية في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي في عام 2020– يرتفع هذا المعدل إلى 80.3 مليون شخص.

لذلك، على المدى القصير، يجب ألا يقتصر دور الحكومة في تقديم الدعم المالي للأفراد والشركات المتضررة من الوباء، بل يجب أن تعمل أيضاً على منع حدوث أزمة غذاء. وبدلاً من عرقلة التجارة، ينبغي على صانعي السياسات تسهيلها، وتحسين التنسيق وتبادل المعلومات بين منتجي الأغذية والمشترين، خاصة على المستوى المحلي.

ويجب أن تشمل التدابير الطويلة الأجل تعزيز الأكل الصحي. إذ في الستين عاماً الماضية، أصبحت الأنظمة الغذائية العالمية أكثر تجانساً، وتهيمن عليها بصورة متزايدة الأطعمة الأساسية التي تحتوي على نسبة عالية من الطاقة، ونسبة منخفضة من المغذيات الدقيقة. وتوفِّر ثلاثة محاصيل- الأرز، والذرة، والقمح- أكثر من 50٪ من السعرات الحرارية التي يأخذها البشر من النباتات. وعموماً، لا يستهلك الناس، خاصة أشدهم فقراً، ما يكفي من الأطعمة الغنية بالمغذيات مثل الفواكه، والمكسرات، والبذور، والحبوب الكاملة. ويموت نحو 11 مليون شخص كل عام بسبب نظام غذائي غير صحي.

ويعدُّ تحديد أصناف المحاصيل المغذية التي يمكن إعادة دمجها في الوجبات الغذائية أولوية قصوى. فعلى سبيل المثال، يحتوي الكينوا، والفونيو (وهما نوعان من الحبوب المغذية جداً التي يزداد الطلب عليها)، والفول السوداني الإفريقي بامبارا، على بروتينات ذات جدودة أعلى من معظم الحبوب الرئيسة، ويمكن أن تنمو في البيئات القاسية. ويمكن أن يؤدي مزيد من البحث إلى غلة أعلى وأسعار أقل، مما يمكن من إتاحة هذه المنتجات على نطاق أوسع. ويمكن للحكومات، والجهات المانحة، المساعدة من خلال تخصيص المزيد من التمويل للمنتجين المحليين لهذه المحاصيل، والعديد من المحاصيل اليتيمة الأخرى.

وفضلاً عن ذلك، يمكن للباحثين استخدام طرق التربية النباتية التقليدية للتحصين البيولوجي للمحاصيل التي تهيمن على الأنظمة الغذائية الحالية، وخاصة تلك التي تعتمدها الشعوب الأشد فقراً. ويقصد بالتحصين البيولوجي تطوير أصناف غنية بالعناصر الغذائية من خلال التهجين الانتقائي لمجموعة متنوعة غنية بالعناصر الغذائية، وذات غلة أكبر. وهذا ينطوي على استغلال الصفات الوراثية لآلاف أنواع المحاصيل التي تحفظ في بنوك الجينات، أو لا تزال موجودة في الطبيعية وفي أماكنها الأصلية.

ولا ينبغي أن تنتهي التعديلات فيما يتعلَّق بالعرض عند هذا الحد، لأنَّ إنتاج الغذاء هو المحرك الرئيس للتدهور البيئي، واستنفاد التنوع البيولوجي. إذ تستخدم الزراعة كميات كبيرة من المياه العذبة، وتمثل 30٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، وتدمَّر الموائل الطبيعية لإفساح المجال للماشية والمحاصيل. ومع ذلك، طالما ركزت البحوث الزراعية على تعزيز الإنتاجية بدلاً من الاستدامة، مع استثمارات موجهة نحو تطوير بذور أفضل، وحيوانات أكثر مقاومة للأمراض، وتقنيات إنتاج أكثر كفاءة لعدد صغير من الأنواع النباتية والحيوانية. وقد شجعت الحكومات هذا الاتجاه من خلال الدعم المالي، والمعايير التنظيمية، والاتفاقيات التجارية.

ولكن السباق لإنتاج سعرات حرارية رخيصة وتوفيرها تسبب أضراراً جانبية، خاصة من حيث التغذية، والتنمية المحلية. ولأنَّ "سباق إنتاج السعرات الحرارية" يعتمد على سلاسل القيمة التي تركز على عدد قليل من المنتجات الأساسية القادمة من عدد محدود من البلدان، أصبحت العديد من البلدان الأخرى مستوردة صافية للأغذية. وسلط الوباء الضوء على اعتمادها المفرط والهش على عدد قليل من المنتجين الذين يبعدون عنها بألاف الأميال، وأكَّد الحاجة إلى سلاسل قيمة أقصر وأكثر تنوعاً.

ويتلقى نموذج الإنتاج الغذائي الحالي أيضاً دعماً يقدر بنحو 600 مليار دولار من الإعانات السنوية المقدمة للمزارعين، خاصة في الاقتصادات المتقدمة. وتولد مثل هذه المخططات زيادة العرض وانخفاض الأسعار، مما يحدُّ من إنتاج الغذاء في البلدان التي تفتقر إلى القدرة المالية لدعم المزارعين.

ويتطلب فك هذه العقدة الغوردية اتخاذ إجراءات حاسمة على عدة جبهات. فنحن بحاجة إلى بحث إضافي في المنتجات الغذائية التي يمكن أن تحافظ على نظام غذائي متنوع وصحي أكثر؛ ويمكن للاقتصادات الناشئة والنامية أن تنتج الكثير منها. ويجب على واضعي السياسات أيضاً تعزيز أنظمة الإنتاج التجديدي، التي تعزِّز التنوع البيولوجي، وتحسِّن جودة التربة والمياه، مما سيسهم إلى حدٍّ كبير في التكيف مع تغير المناخ. ويجب على الحكومات، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية، أن تأخذ زمام المبادرة في تشكيل بيئة مؤسسية تمكن من إدراج هذه التغييرات البعيدة المدى في جدول أعمال البحوث الزراعية.

وقد أبرز الوباء الحاجة الملحة إلى إحداث تحول في الزراعة. ويمثل إعادة البناء الاقتصادي الذي سيعقبه فرصة مثالية لتوفير نظام غذائي وصحي أفضل للجميع.

ترجمة: نعيمة أبروش  Translated by Naaima Abarouch

شغل ماوريسيو كارديناس منصب وزير مالية كولومبيا سابقاً، ويشغل حالياً منصب كبير زملاء مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا. ويشغل خوان لوكاس ريستريبو منصب المدير العام للمنظمة الدولية للتنوع البيولوجي، وللمركز الدولي للزراعة الاستوائية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org