الإبداع والتطوير يعززان دور العملات المشفّرة
دانتي أليجييري دسبارت
لم تحل الشيكات الشخصية محل النقود الورقية، بل أضافت قيمة من خلال منح الناس القدرة على تحديد تاريخ انتهاء صلاحية للمدفوعات بقدر أكبر من الأمان مقارنة بحمل النقود في كل مكان. لعل الأمر الأكثر أهمية أنها تعمل أيضاً على تحسين قابلية التشغيل البيني في النظام المالي من خلال معايير تحديد المسار وأرقام الحسابات. وربما ستلعب العملات المشفرة دوراً نوعياً في هذا السياق.
وستكون عمليات تحديد المسار وأرقام الحسابات في المستقبل كامنة في محافظ رقمية في ظل قدرة شبه شاملة على الوصول العالمي إلى خدمات مالية جيدة التنظيم ومتاحة دائماً.
يطلق بعض المراقبين على هذا وصف «إنترنت القيمة»؛ ويشير إليه آخرون على أنه الجيل الثالث من الإنترنت. أياً كان اللقب، وأياً كانت حدة التقلبات في السوق، فإن هذا الإبداع الخارق جاء ليبقى.
ويستوجب مثل هذا الإبداع التشجيع، والتطوير، والتسخير، بما في ذلك من قِـبَـل شركات الخدمات المالية التقليدية والحكومات على المستوى العالمي، خشية أن تجد نفسها حبيسة التاريخ عندما تظهر أمازونات الجيل الثالث من الإنترنت.
في غياب أوبر (Uber)، تُـرى هل كانت العديد من خدمات سيارات الأجرة لتطور تطبيقاتها الخاصة لاستدعاء سيارات الأجرة أو تبدأ قبول بطاقات الائتمان عندما فعلت ذلك؟ في الصناعات المستقرة حيث تتضاءل المنافسة، يستلزم الأمر ظهور منافسين جدد وتكنولوجيات جديدة لدفع التغيير.
وإذا أدير على النحو الصحيح، فلن يهدد هذا التغيير بالضرورة القائمين على الصناعة المتحكمين فيها، لأنهم يستطيعون تبني التكنولوجيات ونماذج الأعمال الجديدة لمواكبة ما يتوقعه المستهلكون من الوافدين الجدد.
تواجه الخدمات المصرفية والمالية ذات القوى. فكما أنشأت شركات مثل أوبر وLyft نموذجاً جديداً لنقل المستهلكين عند الطلب، عمل العالَـم الناشئ للخدمات المالية القائمة على سلسلة الكتل (blockchain) على دفع العمليات المصرفية وأنظمة الدفع القائمة على الأجهزة المحمولة فضلاً عن أسواق رأس المال العاملة بالبرمجيات.
ورغم أن الخدمات المصرفية عبر الأجهزة المحمولة والإلكترونية كانت قائمة منذ فترة، فإن ظهور العملات الرقمية المشفرة يعمل على تمكين مستويات جديدة من تحكم المستخدم والقدرة على الوصول إلى الخدمات بالاستعانة بما يزيد قليلاً عن محفظة رقمية شخصية.
في نهاية المطاف، يستفيد المستهلكون مع توفر المزيد من الاختيارات. عندما كانت سيارات الأجرة التقليدية مُـحتَـكِرة، فإنها كانت تتجاهل غالباً طالبي الركوب من ذوي بشرة بعينها، أو ترفض الدخول إلى «المناطق الفقيرة التي تُـعَـد خطيرة». لو لم يعمل المنافسون الجدد على توسيع القدرة على الوصول إلى خدمات التنقل والخدمات المالية، كانت هذه الممارسات لتظل هي القاعدة.
على نحو مماثل كانت الصحاري المصرفية موجودة منذ فترة طويلة في المناطق التي تفتقر إلى الكثافة السكانية أو الدخل الأسري المرتفع بالدرجة الكافية لتلقي الخدمة في أفرع البنوك التقليدية.
بالنسبة إلى العديد من الأشخاص، كانت الأنشطة العادية مثل صرف شيك لتظل تنطوي على تكاليف لولا ظهور تطبيقات الإيداع عبر الأجهزة المحمولة، وهذا يوضح كيف تتقارب التكنولوجيات الناشئة بمرور الوقت مع نماذج الأعمال الراسخة في نهاية المطاف.
مع طمس الخطوط الفاصلة حيث ينتهي عمل البنوك التقليدية ويبدأ عمل الخدمات المالية، صاغ العديد من المعلقين هذا التقارب على أنه مباراة محصلتها صِـفر، حيث تكون حتى البنوك المركزية عُـرضة للسقوط عن عروشها بفعل أشكال جديدة من النقود الرقمية. مع ذلك، يجب أن يُـنـظَـر إلى أمور مثل انفجار العملات الرقمية المشفرة، والمعاملات القائمة على سلسلة الكتل، والتكنولوجيا المالية، على أنها فرصة أكثر من كونها تهديداً.
في الوقت الحالي، يقوم ما لا يقل عن 105 من البنوك المركزية، التي تمثل %95 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بمراجعة مزايا ومخاطر إنشاء عملات رقمية عن طريق البنوك المركزية. لكن سباق العملات الرقمية العالمي المهم حقاً لا يدور حول القيم التي يجري نقلها؛ بل يتعلق بالقضبان التي ستنقل هذه القيم بين الأطراف، وخاصة عبر الحدود. وتقديم عملة رقمية صادرة عن بنك مركزي دون التأمل في هذه القضبان سيكون أشبه بتصميم قطار سريع دون بناء المسارات أو شبكات المحطات.
حتى في عصر اتصالية الهواتف الذكية الواسعة الانتشار، سيظل لزاماً على المدفوعات والتحويلات بين البنوك (القطار) أن تتوقف عند محطات منتظمة لمراعاة مخاطر الطرف المقابل، لتأكيد تسوية المعاملات، وما إلى ذلك.
في غياب التخطيط لهذه الأدوار الوسيطة، لن تعمل العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية إلا على التعجيل بالقضاء على البنوك المتوسطة الحجم (التي ستصبح زائدة عن الحاجة تماماً)، في حين لن تفعل أي شيء لسد فجوة الشمول المالي العالمية المتزايدة الاتساع. وهنا يصبح بوسع الخدمات المصرفية القائمة على سلسلة الكتل أن تترك بصمتها.
في ظل الأوضاع الحالية، تخضع البنوك غالباً لسيطرة البائعين والتي يحتكرها عدد ضئيل من مزودي الخدمات التكنولوجية «المجازين» الذين يديرون عمليات المكاتب الخلفية، والوسطى، والأمامية.
وبالتالي فإن العديد من البنوك تعمل تحت رحمة مؤسسات ذات أهمية جهازية تختبئ على مرأى من الجميع. الواقع أن اعتماد البنوك الصغيرة والمتوسطة الحجم على هذه التكنولوجيات المملوكة، والتناظرية، والمعرضة للخطر، هو الذي يضعها في موقف الخاسر في مواجهة البنوك الأكبر حجماً، مما يجعل نماذج أعمالها تبدو أشبه بسيارات الأجرة غير المتطورة بعد وصول تطبيقات استدعاء خدمات الركوب.
على النقيض من ذلك، يخصص بنك جيه بي مورجان تشيس ميزانية للتحول الرقمي تبلغ 12 مليار دولار فضلاً عن فريق مقتدر لإدارة سلسلة الكتل (Onyx) والذي قام بالفعل بمعالجة مدفوعات من الأرض إلى الأقمار الصناعية باستخدام تكنولوجيا العقود الذكية ــ وهو الإنجاز الذي يسلط الضوء على أهمية قضبان التحويل الأساسية.
بعد أن كان ذات يوم من أكبر منتقدي العملات الرقمية المشفرة، أدرك بنك جيه بي مورجان مدى خطورة تجنب تكنولوجيا جديدة تحويلية محتملة.
لكن تظل أسئلة كثيرة قائمة. هل تتمكن المؤسسات الأقل حظاً من الناحية المالية والتكنولوجية من مواكبة هذه التطورات؟
كيف تتكيف البنوك والخدمات المصرفية مع مستقبل من التحويلات الفورية عبر الحدود، التي يجري تسهيلها جميعاً بواسطة رمز موثوق؟ هل يكون ظهور بنية أساسية مفتوحة المصدر للأسواق المالية منبعاً مُـنهِـكاً للارتباكات وإزالة الوساطة، أو هل تساهم هذه التكنولوجيات ببساطة في تحقيق تكافؤ الفرص للجميع؟
لا شك أن العملات المشفرة وسلاسل الكتل تعيبها مشكلة تتعلق بالهوية، خاصة وأنها مرتبطة بمفردات لغوية عالية التخصص فنياً ومصطلحات غامضة. لكن في يوم قريب، ستتراجع التكنولوجيا الأساسية إلى الخلفية.
حيث ستعمل على تمكين رفع مستوى القضبان التي تنقل القيمة إلى مختلف أنحاء العالم على مستوى النظام بالكامل. وسوف يكون التغيير مرتبطاً بالقدرة على الاختيار بين أنظمة الدفع والخدمات المصرفية، وليس استبدالها.
* كبير مسؤولي الاستراتيجيات ورئيس السياسة العالمية لدى Circle، وهو عضو مجلس العلاقات الخارجية، وعضو اتحاد إدارة العملات الرقمية التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي